علم الكتاب المقدس

بقية إسرائيل



بقية إسرائيل

بقية
إسرائيل

(عزرا،
نحميا، حجي، زكريا)

الملّة
اليهودية بعد العودة من السبي

الموجز

الميزة
الأساسية لهذه الفترة الأخيرة في تاريخ إسرائيل هي تحوله من أمة إلى ملة دينية،
فتتركز حياته حول الهيكل والعبادة. ثم يأتي اضطهاد الملك أنطيوخوس أبيفانوس
فيغربله غربلة جديدة فيتركز إيمان إسرائيل الأمين حول مجيء ماسيا.

 

1-
عهد الإصلاح (عزرا، نحميا، حجي، زكريا)

آ-
لقد تألم إسرائيل في السبي – أكثر ما تألم – لتعذر تأديته عبادته المعهودة لله.
وذلك هو سبب الأهمية الأولى المعطاة لإعادة بناء الهيكل (عزرا 1- 6 وحجي وزكريا 1-
8).

 

ب-
وبعد حياة بائسة دامت ثمانين سنة يعمد نحميا إلى إعادة بناء أسوار أورشليم، ويعلن
عزرا الشريعة ويعيد تنظيم الكهنوت والعبادة، ثم تكرس الملة الجديدة رسمياً لله.

 

2-
الاضطهاد (أنطيوخوس أبيفانوس) وعهد المكابيين

عهد
المكابيين مرحلة حاسمة في حياة اليهود بعد الجلاء، إذ يستقل إسرائيل سياسياً خلال
فترة قصيرة، ثم تتحدد مميزاته كملة دينية.

 

3-
تقوى الملة اليهودية (المزامير، أيوب)

آ-
إلى جانب تيار التعصب للطقوس والشرع، يلاحظ ازدهار التقوى الشخصية ازدهاراً جديداً
في نوعه.

 

ب-
تكشف لنا الحياة العميقة للطائفة الإسرائيلية، غداة الجلاء، في المزامير خاصة،
فهذه الأناشيد تعبر عن صلاة إسرائيل وإيمانه ورجائه.

 

4-
آخر الأزمنة ومجيء الملكوت (دانيال)

تصف
رؤى دانيال المعارك الأخيرة الكبرى، فيظهر الله كسيد الأرض المطلق ويزيل ممالك هذا
الدهر. ويوافى ماسيا على سحاب السماء فيستلم الملك ويجري الدينونة. إن سفر دانيال
رسالة تعزية موجهة إلى بقية إسرائيل المضطهدة، تبشر بغلبة الله النهائية.

 

مقدمة تاريخية

 

كان
أنبياء ما قبل السبي قد أعلنوا أن (بقية) فقط من إسرائيل ستخلص. وكانوا في بعض
الأحيان قد وصفوا عهد الإصلاح والتجديد بأوصاف شعرية فخمة. ولكن نظرتهم هذه إلى
مُلك داود معاداً إلى غابر مجده هي في الواقع ذات معنى مرتبط بالآخرة أكثر منه
بالتاريخ (إشعياء 3: 6 و5: 9- 6 و10: 11- 16).

 

والحقيقة
أن (دودة يعقوب)، كما يسمي إسرائيل كبيرُ أنبياء السبي، سيذوق عودة مؤلمة وتجديداً
شاقاً، وسيترتب عليه أن يسير مجدداً على ضوء الإيمان وحده.

 

ولئن
كان كوروش قد أذن بعودة المسبيين إلى أورشليم وبإعادة بناء الهيكل سنة 538 فإن
كثيرين لم يسرعوا إلى العودة لا بل (بقي الكثيرون منهم في بابل لأنهم لم يشاءوا
ترك أرزاقهم) كما كتب المؤرخ يوسيفوس. أما الذين عادوا إلى فلسطين فقد وجدوا
أورشليم خراباً، وأرضهم يشغلها الذين بقوا في البلاد.

 

وكان
حكم الفرس رحيماً فقد احترموا تقاليد الشعوب المغلوبة وعاداتها. ألم يقبل كوروش
بأن يُعاد بناء الهيكل على حسابه؟ (أي بقطع مبلغ من الضرائب الملكية ولا شك). لكن
ثورات القصر والفتن تتالت في مملكة الفرس حتى أخضعها الإسكندر الكبير سنة336.
وعندما انقسمت إمبراطورية الإسكندر بين قواده أصبحت فلسطين وسوريا موضوع الخصام
بين البتوليمائيين سادة مصر من جهة والسلوقيين وريثي الممالك القديمة على شطي دجلة
والفرات من جهة ثانية (320- 168). ومع هذا فقد نعم اليهود بحرية كبرى وتوزعوا على
العالم اليوناني الذي كان يقدّر صفاتهم ومقدرتهم الحربية بشكل خاص. لكن مجيء
أنطيوخوس أبيفانوس ملك سوريا قد قلب الأمور رأساً على عقب، فاحتل أورشليم وداس
الهيكل وبنى فيه مذبحاً وثنياً وأمعن في السكان تقتيلاً. فأثار هذا حفيظة
المكابيين فأعلنوا ثورة انتهت باستقلال يهوذا سنة (142ق.م). ودام استقلال يهوذا
حتى السنة (63ق.م) عندما احتل بامبيوس أورشليم بعد أن أسقمتها الحروب الأهلية.
وكان ذلك بدء الاحتلال الروماني. ثم توصل هيرودس الأمير الأدومي إلى كسب حظوة
السلطات الرومانية فقطع رأس آخر الأمراء المكابيين سنة (37ق.م) وابتدأ حكمه الدامي،
وقد سمّي بالكبير ومنحه الرومان لقب (ملك يهوذا).

 

إذاً
خارجاً عن حكم المكابيين لم يعرف إسرائيل بعد عودته من السبي أيّة حرية سياسية ولم
يتحقق حلمه الكبير بإعادة ملك ذرية داود، لذلك انقلب إلى ملة دينية. وبنتيجة ذلك
أصبح للهيكل والشريعة أهمية رئيسية. وفي هذه الآونة تبسّطت الديانة اليهودية
واتخذت الشكل الذي ستكون عليه حتى أيام يسوع (21).

 

1-
عهد الإصلاح

آ-
كان السبي كما رأينا يُوجع اليهود المؤمنين قبل كل شيء بنتائجه الروحية. فقد حرمهم
الهيكل أي المكان الذي فيه، وفيه وحده، تقدّم الذبائح الشرعية وبواكير الحصاد
وأبكار المواشي، وتتم مراسم التطهير. لذلك كان إسرائيل المسبي يشعر بأنه شعب نجس
يعيش في محيط نجس ولم يكن يؤلمه السبي بحد ذاته كما يؤلم كل مسبي لكنّ آلامه كانت
آلام المؤمن الذي تجلى عن إلهه والذي يبدو أن إلهه قد تخلى أيضاً عنه. وقد ردّدت
لنا بعض المزامير أصداء ذلك الحنين المفجع:

(على
أنهار بابل

هناك
جلسنا وبكينا

عندما
تذكرنا صهيون

على
الصفصاف

في
وسطها علقنا قياثيرنا

كيف
نرتل ترتيلة الرب في أرض غريبة؟

إن
أنا نسيتك يا أورشليم

فلتنسني
يميني

وليلتصق
لساني بحنكي

إن
لم أذكرك

إن
لم أفضّل أورشليم على أعظم أسباب فرحي) (مز1: 137- 2 و4- 6).

أو
المزمور (42):

(صارت
دموعي خبزاً لي نهاراً وليلاً

إذ
قيل لي في كل يوم أين هو إلهك؟

ذكرتُ
هذه فاكتأبت نفسي فيّ

لأني
ذاهب إلى بيت الله

إلى
مقرّ خبائك العجيب

بصوت
تهليل وشكران

وأهازيج
المعيدين) (مز4: 42- 5).

وترجّع
مرائي إرميا صدى أيام الصوم والاكتئاب التي كانت فيها البقية المؤمنة تنشد وجعاً
في عزلة السبي:

(كيف
غشّى السيد بغضبه

بنت
صهيون بالظلام

وطرح
من السماء إلى الأرض

فخر
إسرائيل

ولم
يذكر موطئ قدميه

في
يوم غضبه.

استأصل
كجنة سياجه

وقوّض
محضره.

نسي
الرب في صهيون

العيد
ويوم السبت

ونبذ
بسخط غضبه

الملك
والكاهن..

أقصى
السيد مذبحه

ومقت
مقدسه..) (مراثي 1: 2 و6 و7).

لكن
إذا كان خراب الهيكل دليلاً على سخط الرب فإعادة بنائه ستكون بالطبع إشارة لعودة
البقية المؤمنة الأمينة إلى نعمة الله.

هذا
ما يفسر لنا كون حزقيال النبي والكاهن، وهو في السبي، يرسم بدقة متناهية تصاميم
هيكل المستقبل وينظم احتفالاته (حز40- 46). غير أنه يعرف أن التجديد لن يتحقق إلا
بشروط روحية وأن القضية إنما هي قضية قيامة: أعني أن روح الله يجب أن ينفخ في عظام
إسرائيل اليابسة ويعيد إليها الحياة (حز37). يجب أن يخرج من الهيكل نهر الحياة
الذي يروي الأرض (حز47).

لقد
قرر كورش إعادة تشييد هيكل أورشليم بناءً على أمر الله كما ورد في سفر عزرا (عزرا
1). ووكل إدارة البلاد المدنية إلى أحد أمراء يهوذا الذين هم من نسل الملك المسبي.

 

وكان
أول رئيس كهنة للعبادة الجديدة يهوشع (عزر 2: 3 وحجاي 12: 1). وهذا الاسم هو ذاته
اسم يشوع ويسوع، ومعناه الذي يخلص أو الذي (يُفسح مكاناً).

 

وكان
الهيكل مهدوماً ولكن الصخرة القديمة التي كانت تقام عليها الذبائح ما زالت باقية
لذلك فقد عادوا يصعدون المحرقات مع أن الهيكل لم يكن قد أُسس بعد (عز 6: 3). وكان
أمر بناء الهيكل الشاغل الأول لليهود. غير أن خصاماً انفجر بين الإسرائيليين
العائدين وكانوا محافظين والفريق الإسرائيلي الذي لم يهاجر ولا سيما السامريين،
فكان الأولون يريدون إبقاء العبادة على ما كانت عليه من النقاء وهذا يقضي بألا
تمتد أيُّ يد نجسة إلى المساهمة في إعادة البناء. فنتج من جرّاء ذلك أن المرفوضين
تجمّعوا وحاولوا عرقلة المشروع باللجوء إلى داريوس. لكنّ دسائسهم باءت بالفشل (عز
5- 6).

 

والحقيقة
أن التأخير الذي حصل في إعادة بناء الهيكل كان لأسباب أخرى على ما يمكن استخراجه
من نبوءات حجّاي. نعم لقد بكى المسبيون أورشليم وقد أضرم السبي في قلوب الخيّرين
منهم حرارة الإيمان، ولكن يبدو أنهم عندما عادوا إلى بيوتهم عادوا كذلك إلى حياتهم
اليومية ومصالحهم. لقد كان شعارهم في ذلك لا شك أنه يجب أن نخدم الرب ولكن على
الإنسان أن يعيش أولاً فيزرع الأرض ويعيد بناء المنازل، خاصة وأن المواسم الأولى
كانت ضعيفة والمعيشة غالية والأجور بسيطة. (إن وقت إعادة بناء هيكل الرب لم يحن
بعد) (حجاي 2: 1).

 

هذا
تفكير بشري ولكنه بالنسبة إلى شعب الله لا يختلف عن الإنكار. فلا ننسينّ أن الغاية
هنا ليست مجرد بناء حجارة. بل الهيكل مكان للصلاة ينزل فيه الله العلي وإشارة
لحضوره في وسط شعبه. فالمقصود إذن الآن معرفة ما إذا كان إسرائيل سيعيد بناء حياته
القومية حاسباً حساب الله أم لا.

 

عند
ذاك (أي في السنة 520ق.م وبعد حوالي ثماني عشرة سنة من مرسوم كورش وفي السنة
الثانية من عهد الملك داريوس) ارتفع صوت النبي حجاي قائلاً:

(هل
حان لكم أن تسكنوا في بيوتكم المسقوفة طالما الهيكل خراب؟

الآن
إذاً يقول رب الجنود سيروا بانتباه في السبيل التي تتبعون.

لقد
زرعتم الكثير لتحصدوا القليل فستأكلون دون شبع وتشربون دون ارتواء

وتلبسون
دون التوصل إلى الدفء.

وعاملكم
كأنه يضع أجرته في جيب مثقوب) (حجاي 4: 1- 6).

 

لقد
زرع إسرائيل دون أن يحصد وجمع دون أن يغتني لأنه بنى ولم يهتم للرب (حجاي 7: 1-
11). حينئذ، (سمع زربابل ابن شالتئيل ويهوشع ابن يوصاداق الكاهن العظيم كما سمعت
معهما بقية الشعب صوت الرب إلههم وكلمات حجاي النبي الذي كلفه الله إلههم بقولها
لهم) (حجاي 12: 1 عز 1: 5 و2).

 

وبنتيجة
ذلك أخذت (بقية الشعب) كلها تبني بحماس وغيرة هيكل الرب الذي فيه تجثم مواعد الله
العلي.

 

وبعد
شهرين من نبوءة حجاي رفع زخريا صوته بدوره بالتنبيه التالي: (عودوا إليَّ يقول
الرب وأنا أعود إليكم) (زخر 3: 1). فقد كان سبب الكارثة قلة أمانة إسرائيل،
والتساؤل الآن فيما إذا كان الجليل الجديد سيكون أكثر إصغاء لكلمة الله من آبائه.

 

وأتت
رسالة زخريا في شكل رؤى واضحة: نرى بادئ بدء فرساناً يجولون في الأرض، وكل شيء
هادئ، وسلاطين الأرض يحكمون في أمن. ويتساءل النبي متى ينتقم الله لشعبه ويخلصه من
أعدائه فيطمئن الملاك النبي بأن الخلاص قريب. وفي الرؤيا الثانية (إصحاح 2) إعلان
عن إعادة بناء أورشليم واقتراب يوم الرب، يوم (يخرج من مسكنه المقدس). ثم يرى
زخريا ويهوشع رئيس الكهنة وملابسه قذرة: أنه يحمل أدران إسرائيل. لكنّ ملاكاً يأتي
فيخلع عنه ثيابه ويلبسه ثياباً فخمة يضع على رأسه تاجاً نقياً. إن الله بذاته
ينتزع عن شعبه آثامه.

 

صور
يهوشع ورفاقه هي صورة مسبقة عن المسيح الآتي وعن (النبت) الذي سيقيمه الله في وسط
إسرائيل: (هاأنذا أزيل إثم هذه الأرض في يوم واحد) (زخريا 1: 3- 10).

 

يا
لها من نبوءة أخّاذة، لأن يهوشع هو وجه يبشر بالمسيح الآتي الذي سيرفع إلى الأبد
خطايا شعبه (في يوم واحد) يوم الجمعة العظيم.

 

كان
يهوشع الكاهن الأعظم لله العلي. أم زَرُبابل فكان يجسّم السلالة الداودية (مت 12: 1-
13). وكان مكلفاً بتكميل عمل الترميم والإصلاح ولم يكن عليه أن يخاف من البداية
المتواضعة: (لا بالجيش ولا بالقوة ولكن بروحي سيتم هذا البيت يقول رب الجنود) (زخر
6: 4). إن يهوشع وزربابل (مسيحي الرب) يقفان (قرب سيد الأرض بكاملها) (زخر 14: 4).
ولعملهما وشخصيهما معنى نبوي لأنه من هذا المكان باللذات سينبعث (النبت) الذي
سيحمل يوماً على عاتقه مهمة كليهما: (هو يبني هيكل الرب وهو يحمل الجلال ويجلس
ويتسلط على عرشه وككاهن يكون جلوسه ويمارس كلا الوظيفتين بتوافق تام) (زخريا 13: 6).
وبالفعل يجمع يسوع المسيح في شخصه وظيفة الملك والكاهن، غير أن الهيكل الذي يبنيه
ليس من صنع الأيدي البشرية ولا هو مصنوع من الحجارة، (لأن بيته هو نحن) كما تقول
الرسالة إلى العبرانيين (عب 6: 3). والجماعة التي ينوي الله أن يؤسسها هي مجموعة
من (حجارة حية تؤلف بيتاً روحياً) (1بط 4: 2- 6). وسيكون حجر الزاوية في الهيكل
الجديد يسوع المسيح ذاته (1بط 4: 2- 6 واشعيا16: 28- 18 ومر10: 12- 11)، وفي شخصه
الإلهي يتجلى مجد الله، وسيكون خيمة الشهادة الحية التي يظهر فيها الله للبشر
(خر36: 40 ويو 18: 2- 22 وعب 1: 8- 2 ورؤ3: 21 و22: 21).

 

ب-
صدر مرسوم كورش وعاد المسبيون الأولون سنة 538، وبشّر حجاي وزخريا سنة 520.
وبالرغم من الحماس المؤقت الذي أثاره تبشيرهما، وبالرغم من إعادة بناء الهيكل، كان
العائدون لا يزالون يعيشون عيشة تعيسة. وفي سنة 458، أي بعد العودة الأولى بثمانين
سنة، عاد على أرض الأجداد، بناء على أمر الله وتأييد ارتحششتا ملك الفرس، رجلان
بارزان هما عزرا الكاهن ونحميا العلماني. فالأول أخذ على عاتقه إعادة نفوذ التوراة
شريعة الله، والثاني إعادة بناء أسوار أورشليم.

 

لقد
بلغت مسامع شوش أخبار التعاسة التي كان يعيش فيها الإسرائيليون العائدون إلى
بلادهم: (هؤلاء العائدون من السبي هم في البلاد في ضنك شديد وبؤس، وفي وضع مزر.
وأسوار أورشليم مهدّمة وأبوابها أحرقتها النار) (نحميا 3: 1).

 

فذرف
نحميا الدمع السخين لدى سماعه الخبر وصام وصلى. فأعطاه الله أن يجد نعمة في عيني
الملك ارتحششتا، فغادره مزوّداً بالسلطة اللازمة لإعادة بناء أورشليم.

 

وما
كان منه إلا أن ألهب حماس القضاة والشعب فبنوا الأسوار (إصحاح 2 و3). وعبثاً حاول
أعداء يهوذا التقليديون عرقلة العمل (نحميا 4) فإن إيمان نحميا ذلّل كل العقبات: (فكان
الذين يبنون والذين يحملون الأثقال والمحملون يشتغلون بيد ويمسكون الحراب بالأخرى)
(نحميا 17: 4). وكان الله يحارب مع شعبه ويحميه. وما أروعه رمزاً أن يُمسك هذا
الشعب السلاح بيدٍ والمالج بالأخرى لإعادة بناء مدينة الله ساهرين ليل نهار لئلا
يبغتهم العدو.

 

وبالإضافة
إلى القلاقل الخارجية أتتْ قلاقل من الداخل. فالشعب ناء تحت عبء الضرائب وعرف
المجاعة والإفلاس. وكان العظماء يستغلون بؤسه فيقرضونه أموالاً برباً فاحش حتى أن
المدينين ما كانوا يجدون بدّاً من بيع بناتهم إماءً ليسددوا الدين. وتدخل نحميا
الباني فتحوّل إلى ممثل للعدالة وإعادة النظام بتجرده وإنصافه، وتوصل إلى إقناع
الدائنين بترك ديون مدينيهم (نحميا إصحاح 5). وهكذا أحبط الرب دسائس جميع أعدائه
(إصحاح 6).

 

ولكن
كيف نفسر هذه الأهمية المعطاة لإعادة بناءِ مجرّدِ أسوارٍ من حجر؟ ذلك لأن هذه
الأسوار هي أسوار صهيون مدينة الله التي الله حاميها ومجنها. وإنها لجديرة بكل
دفاع لأنها تلعب دور الشاهد لله في وسط الشعوب وتبشر بالمدينة الآتية غير المصنوعة
بيد الإنسان. وبالرغم من كونها من عمل أيدي البشر فإن الله هو مهندسها وبانيها
بقوة كلمته الإلهية (مز87).

 

(إن
لم يبن الربُّ البيت فعبثاً يتعب البناءون

 

وإن
لم يحرس الرب المدينة فعبثاً يسهر الحارس) (مز127)

 

ويوم
تكفر أورشليم بربها تلقى حتفها ويكون بيتها خراباً (مت37: 23- 39 ولو41: 19- 44).

 

لكنها
الآن أعطيت مهلة بضعة قرون لتكون المدينة الشاهدة لله الحي. وكما أن نحميا كان
باني المدينة فإن عزرا كان كاهناً. فقد صوب كل اهتمامه نحو إعادة العبادة إلى
مكانتها السابقة. فقرأ نصوص الشريعة للشعب في اجتماع عام (نحميا 8) وهكذا أعيد
تجديد العهد رسمياً (إصحاح10) واتخذت تدابير شديدة ضد الذين اقترنوا بنساء غريبات
لأن الطائفة الدينية الآن يجب أن تتطهر من كل مزيج وثني بعد إصلاحها (عزرا 9- 10
ونحميا1: 13- 3، و23- 30).

 

وقد
تبدو لنا هذه التدابير ضيقة. ولكننا قد أصبحنا على عتبة الديانة اليهودية في
مفهومها الضيق المحدود وفي تعلقها بحرف الشريعة وستؤدي حالها هذه إلى ولادة فرقة
الفريسيين. غير أن هذا التشدد الذي يذكرنا بأيام دخول إسرائيل الأول إلى أرض
الميعاد (بروحه وحتى بشكله أيضاً) ليس سوى ردة فعل ضرورية ضد الميعان والاختلاط بالبيئة
المجاورة. وبفضل هذا التشدد تتمكن العقيدة اليهودية الموِّحدة من أن تثبت.

 

لقد
أصبحت الأمانة، في نظر هذه البقية القليلة من إسرائيل التي نجت وحدها من الكارثة،
مجردَ طاعة واقعية لوصايا الله، وتعلقاً بالمراسيم والطقوس قد يبدو لنا اليوم
وكأنه سخيف، لكنه كان في الواقع سبب الحفاظ على كيان تلك البقية. ومنذ الآن
فصاعداً يلعب الكهنة دوراً رئيسياً وإسرائيل الإصلاح يصبح نوعاً من حكم الكهنة.

 

كان
الإسرائيليون خلال أوقات السبي المظلمة قد تعلقوا بالطقوس التي أمكن ممارستها أعني
السبت والصوم. فاحتل هذان الأخيران بعد السبي مركزاً رئيسياً. ولكنّ أصواتاً نبوية
ترتفع لكي تذكّر بأن الصوم الحقيقي هو عمل البرّ والرحمة وبأن هذه العبادة هي
وحدها التي ترضي الله (زخريا 7- أنظر إشعياء58).

 

وكذلك
سترتفع أصوات نبوية في زمن التعصب هذا والانكماش الديني لتذكّر الشعب بالطابع
الشامل المسكوني الذي لرسالة إسرائيل. وهذا هو المعنى العميق للسفرين اللذين كتبا
في هذه الحقبة من التاريخ أعني سفر راعوث وسفر يونان. نعم إن الله الحي يرفع أسوار
أورشليم ولكنه لا ينحصر فيها مطلقاً.

 

2-
الاضطهاد (أنطيوخوس أبيفانوس)

لقد
أعيد بناء الهيكل والأسوار، ولكن الأمل في عودة الملك، ذلك الأمل الذي شدد إيمان
إسرائيل، ولم يتحقق.

 

غير
أن إسرائيل، بعد أربعة قرون من رجوعه إلى أرض الميعاد، عرف الحرية السياسية خلال
ثمانين سنة. إن هذه الحقبة القصيرة غاية في الأهمية في تاريخ الملة اليهودية بعد
السبي. فقد حمل المكابيون السلاح للدفاع عن كيان إسرائيل من حيث أنه طائفة دينية.
ولا يزال أمامنا التساؤل قائماً فيما إذا كان إسرائيل سيحافظ على إيمان آبائه في
كامل نقاوته أو أنه سيساير العالم المحيط به.

 

كان
الفرس قد تركوا لليهود في أورشليم ملء حريتهم الدينية. لكنّ الأمر لم يستمر هكذا
في عهد السلوقيين بل على العكس قام هؤلاء بمحاولة امتصاص الشعب اليهودي. ففي كتاب
المكابيين الأول (22) إن عدداً من الإسرائيليين تأثروا بالثقافة اليونانية، ومّلوا
من بقاء الشعب وكأنه أمة مفروزة، ولا حظوا بأن هذا الانكماش قد سبّب لهم (بؤساً
وتعاسة) (1مكا 12: 1).

 

وكانت
الخطوة الأولى للامتصاص في حقل الرياضة البدنية فما كان منهم إلا أن أسسوا قاعة
للعب في أورشليم وأخفوا ختانتهم التي كانت مدعاة للهزء والسخر بهم على الأغلب.
فعمد الملك أنطيوخوس – وكان سيد اليهودية آنئذ – إلى تشجيع هذه الحركة ثم هاجم
أورشليم بغتة ونهب الهيكل (143ق.م) ثم بنى قلعة في قلب المدينة المقدسة.

 

كان
لدى أنطيوخوس مفهوم ديكتاتوري للدولة فأراد إلغاء كل قانون أو عرفٍ خاص في مملكته.
لذلك هاجم العادات اليهودية وجهاً لوجه، وخصوصاً ما يخص ذبائح الهيكل وفرائض السبت
والختان، والحيوانات النجسة (1مكا 43: 1- 54 و2مكا 6). (فاتخذ الكثيرون من اليهود
جانب السوريين). ولم يبق للقلة الأمينة الباقية إلا أن يختبئ خوفاً من الموت. في
ذلك الحين أقيمت في الهيكل (رِجسَةُ الخراب) التي قد تكون مذبحاً وثنياً أو صنماً
في وسط الهيكل (1مكا 57: 1).

 

هنا
تجدر الملاحظ أن إسرائيل يُضطهد بسبب إيمانه لأول مرة في تاريخه، وإن عملية
امتصاصه كانت تحدث تحت الضغط. فعثر معظم الشعب إلا أن بقية أمينة صمدت وقاست
بشجاعة أمرّ التعذيب والاستشهاد (1مكا26: 1 و2مكا 7). وسيجسّد هذه البقية متتياس
ذو الشخصية القوية وابنه يهوذا الملقب بالمكابي وإخوته. ولن نطيل الشرح عن تطورات
الصراع وإنما يهمنا في الدرجة الأولى الروح الذي كان ينفخ فيهم أعني الأمانة
لشريعة الله، ودفاعَ الإيمان ضد اعتداء الله الحي. ونلاحظ أن كاتب السفر يذكّر بأن
تلك الآلام لم تكن بغير معنى: (وإني لأرجو من مطالعي هذا الكتاب أن لا يستوحشوا من
هذه الضربات وأن يحسبوا هذه النقم لا للهلاك بل لتأديب أمتنا. فإنه إذا لم يُهمَل
الكفرةُ زمناً طويلاً بل عُجّل عليهم بالعقاب فذلك دليل على رحمة الله العظيمة.
لأن الرب لم يهمل عقابانا بالأناة إلى أن يستوفى كيل الآثام كما يفعل مع سائر
الأمم بل قضى فينا بذلك لئلا تبلغ آثامنا غايتها وينتقم منا أخيراً. إنه لا يزيل
عنا رحمته أبداً وإذا أدّب شعبه بالشدائد فهو لا يخذله) (2مكا 12: 6- 16).

 

هذا
اليقين القوي يشدّد إسرائيل في كل محنة خلال التاريخ والكنيسة بدورها ستعتنقه
يوماً (عب4: 12- 13). فإن عقاب الله هو نداء يطلقه إلى محبوبيه، وأخطر منه بكثير
سكوت الله الذي يترك الجرعة بدون قصاص إلى أن يطفح الكيل.

 

لقد
ساعدت محنة عهد المكابيين على قيام غربلة ميّزت إسرائيل المؤمن بالفعل عن الذي ليس
له من الإيمان إلا بالاسم. ونتج من ذلك بحكم الطبيعة تشديد أعظم على تطبيق الفرائض
كما نتج لدى المؤمنين ميلٌ إلى الابتعاد عن كل ما قد ينجسهم، فكان أن قامت فرقة
الفريسيين والكلمة تعني المبتعدين أو المنفصلين. وإذا كان يسوع قد حكم على نفاق
الفريسيين فذلك يجب أن لا ينسينا أنهم في وقت من الأوقات كانوا حماة الإيمان
القويم والأمانة الكليّة لشريعة الله. ولكنهم لم يكتفوا بهذا بل أخذوا يؤوّلون
الشريعة بحجة تفسيرها فوقعوا في المبالغة في الدقة وجعلوا يزيدون فريضة على فريضة،
مما دعاه يسوع (تقليد الناس)(مر8: 7).

 

ومقابل
الفريسيين يزعم الصدّوقيون أنهم يتمسكون بالشريعة المكتوبة فقط وينظرون إلى البرّ
على ضوء الشريعة مئة في المئة (ولفظة صدوقي تعني (بارّ)). وقد جعلوا الله في
مفهومهم متعالياً إلى هذا الحد حتى أن اعتقاداتهم أصبحت بدون علاقة بالحياة
وانقلبوا هم أنفسهم بسرعة إلى جماعة مادية انتهازية حاضرة للمساومة والمداهنة مع
التيارات الراهنة وسياسة المستعمر. وكان معظم أعضاء هذه الفرقة من الكهنة. وفي هذا
القرن الثالث قبل المسيح نشأت أيضاً هيئة جديدة في إسرائيل هي المجمع.

 

كان
من شأن حصر العبادة في أورشليم تعذّر إقامة الذبائح الطقسية على الإسرائيليين
المشتتين في العالم إذ لم يكن بوسع الكثيرين منهم الذهاب إلى الهيكل سوى مرة واحدة
كل سنة أيام الأعياد الفصحية. فنتج عن ذلك ضرورة إيجاد شكل آخر للعبادة بدون ذبائح
للحفاظ على وحدة المؤمنين، وكان ذلك المجمع. والمجامع الأولى التي ورد ذكرها في مستندات
تاريخية معروفة هي المجامع المصرية في القرن الثالث قبل المسيح. وفي أيام المسيح
كانت هذه الهيئة قد عمّت في فلسطين، وكانت عبادة المجمع تتألف من صلوات وقراءة
للشريعة والأنبياء مع الشرح. وهكذا نشأت ونمت ديانة كتابية مرتكزة على كلمة الله،
إلى جانب ديانة الذبائح التي طغت حتى تلك الأيام. وكان لها التغير الجديد أثر غاية
في الأهمية لأنه يؤهّل الديانة اليهودية للبقاء في العالم عندما تأتي ساعة الهدم
النهائي للهيكل في السنة السبعين مسيحية.

 

3-
تقوى الطائفة اليهودية

آ-
كان أنبياء السبي قد ركّزوا الاهتمام على الله من حيث أنه كليُّ القدرة وقدوس.
وهذا الشعور بعظمة الله وقداسته الرهيبة نراه يستمر في الديانة اليهودية بعد السبي
حتى أن العادة في هذه الحقبة من التاريخ اليهودي جرت باستعمال كل تعبير يدل على
الله بدل أن يُلفظ اسمه هو.

 

ثم
لقد أشرنا إلى الطابع الطقسي والقانوني في الديانة اليهودية بعد السبي. ولكن في
صميم هذه الديانة أيضاً يتأكد الآن الطابع الخلاصي الشخصي بطريقة جديدة تماماً.
والحقيقة أن روايات المخبرين وبشارات الأنبياء كانت تهتم حتى هذه الحقبة لمصير
الأمة الروحي وكأن الفرد لم يُوجَد إلا بالنسبة إلى هذا المصير الجماعي. وأما
اعتباراً من السبي فصاعداً فيتخذ مفهوم الخلاص طابعاً فردياً بمعنى أن كل كائن
بشري مسؤول أمام الله شخصياً عن أعماله (إرميا29: 31- 30 حز12: 33- 16).

 

والخطر
في مثل هذا المفهوم للخلاص أنه يوِّلد مفاهيم أخلاقية تربط مثلاً الفضيلة بالسعادة
والخطيئة بالتعاسة رباط المعلوم بالعلة، ونحن نعلم أن مفهوم البرِّ هذا الضيق
المبني على المكافأة سيلقى يوماً من الأيام إهمالاً من المخلص يسوع، ولكننا منذ
قبل يسوع نجد أنَّ سفر أيوب، وهو من أقوى أسفار العهد القديم، ينظر إلى الآلام
التي احتملها أيوب لا كنتائج للخطيئة بل كامتحان لإيمانه غايتها في النهاية أن
يتمجد الله فيه.

 

إن
مقدمة السفر تطرح المشكلة بوضوح. فالشيطان يُدخل الشك في نقاوة إيمان أيوب وتجرده،
ويذهب إلى أن إيمانه هو ابن المصلحة ليس إلا فإذا سحب الله نِعمَه من أيوب تقوّض
إيمانه. وهكذا قبل الله أن يمتحن عبده، فخسر أيوب أرزاقه وعائلته وصحته، وتعرّى
كلياً من كل شيء. وبدأ صراع روحي هائل: فشكا أيوب إلى الله شكه وآلامه ولكن شكواه
كانت بالضبط شكوى مؤمن، وكان يرفض تعزية أصدقائه لأنه لا يقدر أن يقبل مساعدة إلاّ
من الله وحده. وأخيراً تراءى الله له فقال: (كنت قد سمعتك سمع الأذن أما الآن فقد
رأتك عيني لذلك أنكر أنا مقالتي وأتوب وأتدثر بالتراب والدمار) (أيوب5: 42- 6).

 

في
سفر أيوب إعلان عن طبيعة الإيمان الحقيقية، والهجوم الذي يواجهه هذا (البارّ) من
قبل الشيطان يصوّر بطريقة سرية ما سيكابده يسوع بالروح على الصليب.

 

ب-
وإذا كنا نشاء معرفة العنصر الحي في التقى اليهودي غداة السبي وجب علينا أن نعود
إلى الصلوات والترانيم في ذلك الوقت لا إلى المستندات الرسمية أو النصوص القانونية
أو الأخبار. فلدينا شاهد من أعظم الشهود خلّفه لنا ذلك العصر أعني به كتاب
المزامير. لا شك أن عدداً من المزامير يعود إلى تاريخ أقدم من هذه الحقبة ولكن
الكثرة الساحقة بينها لا تتجاوز تاريخ السبي. ومنها ما كتب للاستعمال في الصلاة
الجماعية أو في دورة الحج السنوية، ولكن عدداً كبيراً يعبّر عن الفرح والشدة، عن
الحروب والانتصارات في حياة المؤمن الشخصية. والتعبير عن هذه كلها مصوغ بطريقة
تجعلها تطبّق على كل إنسان. والجماعة المسيحية التي لا تزال تترنم اليوم بالمزامير
تتعرّف فيها بدون صعوبة على تجاربها هي وعلى نجاتها هي أيضاً، وهي تنقلها بسهولة
على السلّم المسيحي إذا جاز هذا التعبير الموسيقي. والواقع أن لا شيء على الأرض
يفوق قوة تلك الترانيم التسبيحية والشكرية، وحقيقة تلك المزامير الانسحاقية،
وصرخات النجاة تلك. وعلى كل من يشاء، اليوم أيضاً، أن يتعلم كيف يصلي أن يتغذى
بالمزامير. وقد أدركت الكنيسة المسيحية ذلك ففرزت لها في طقوسها مكاناً عظيماً.

 

سبق
لنا أن أشرنا إلى الطابع الميسياني لعدد من المزامير المنسوبة إلى داود النبي
وسنعود إليها عند دراستنا لشهادة العهد الجديد. ولكنني أعتقد أنّ علينا أن نذهب
إلى أبعد من ذلك فنقول أن مجموعة هذه الترانيم التي تعبر عن إيمان (البقية)
المؤمنة وانتظارها، هي ذات طابع نبوي، ولن تتخذ ملء معناها إلا في يسوع المسيح.
ونحن نعلم أنه كلما تغنت المزامير بفضيلة البار وقوته الظافرة إنما هي تتكلم بصورة
الرسم والرمز وأن البرّ الإنساني نسبي وإن البار الوحيد الذي تصح فيه هذه الكلمات
هو يسوع. كما نعلم أن فيه وفيه وحده يتم إيمان المرنم وانتظاره. ثم هنا، تماماً
كما في الأنبياء، يجب معرفة صاحب المزامير إنه إنسان ملتزم بصراع واقعي وإنه عندما
يتكلم عن تجاربه وشكوكه وأعدائه الذين يهاجمونه وعن الخلاص الذي يعطيه الله إياه
فهو يتكلم عن أشياء حقيقية يعيشها. لكنّ هذا الانتظار والصراع والانتصار لا معنى
لها إلا لأن كائناً أعظم منه سيجابه يوماً من الأيام كلّ أعداء الله ويغلبهم. وإن
خطاياه تغفر مسبقاً لأنها ستغفر يوماً على الصليب، ولأن هنالك قادماً قريباً هو
ذلك الذي (يخلق فيه قلباً نقياً) (مز51). إن المرنم والنبي يذوق مسبقاً آلام
المسيح ومجده التالي (ابط 10: 1- 11 ولو44: 24). ولقد ذاق هذه الآلام في جسده
وأبصر ذلك المجد بعين الإيمان (مز 2 و22 و59 و110). فاستضاءت حياته الروحية وتشددت
وختمت بختم الروح. ومن أدرك هذا السر لا يمكنه إلا أن يرى في المزامير شهادة جلية
صارخة للمسيح الظافر.

 

4-
آخر الأزمنة ومجيء الملكوت

إن
عهد الإصلاح لم يأتِ بالخلاص الموعود، والآمال التي انتعشت ساعة متوقعة عودة الملك
قد خابت. فأضحى إسرائيل المؤمن يدرك أكثر فأكثر أن ملكوت المسيح لا يمكن أن يأتي
إلا بفعل من الله. وصار ينتظر آخر الأزمنة أعني ذلك اليوم المجيد الذي فيه يُخضع
الله كل أعدائه وتتراكض شعوب الأرض نحو جبل صهيون.

 

لقد
رأينا في الأنبياء إشارات متعددة لهذا الإيمان الناظر إلى اليوم الأخير، وهو جلي
خاصة في الآخرين منهم (زخريا وملاخي). ولكنه سيفتح في يهودية ما بعد السبي باباً
جديداً من الأدب أعني به الرؤيا، وهذه تصف الأيام الأخيرة والملكوت المنتظر
بتعابير من النوع الرمزي. ولم يحتفظ كتاب العهد القديم إلا بسفر رؤيا واحد هو سفر
دانيال.

 

كُتب
سفر دانيال في عهد المكابيين. وهو ينقسم إلى قسمين اثنين فالقسم الأول (إصحاح 1-
6) يتكلم عن سيرة دانيال في بلاط ملوك بابل وكيف أنه ورفيقيه يجسّدون (البقية)
الأمينة التي تؤثر أن تستشهد على أن تسجد لآلهة غريبة، وذلك أمانة لإله إسرائيل
(إصحاح 1 و3 و6)، ولا شك أن هنا صورة مغطاة لاضطهادات أنطيوخوس أبيفانوس. ويهب
الله دانيال موهبة تؤهله لتفسير أحلام الملك. أما هذه الأحلام فترتبط بتاريخ
العالم ونهاية الأزمنة (إصحاح 2 و4 و5). فإن نبوخذ نصر يرى تمثالاً رائعاً هو صورة
لممالك أربع. وها إن حجراً ينقطع من الجبل (لا باليدين) ويضرب قدمي التمثال فيحطمه.
هكذا ستحطم يد الله ممالك العالم. ومن ثمَّ يصبح الحجر جبلاً عظيماً يملأ الأرض
ويرمز إلى ملكوت الله.

 

أما
القسم الثاني من السفر فيتكلم عن الأشياء ذاتها ولكن تحت صورة رؤى: أربعة حيوانات
عظيمة تخرج من البحر وتبتلع كل ما تجده في طريقها على الأرض (والبحر عند
الإسرائيلي هو مكان سكنى قوى الشر، الهاوية الكبرى). وللحيوان الأخير عشرة قرون،
وها إن قرناً صغيراً ينبت ويحل مكان ثلاثة قرون. وهذا القرن الصغير له (عيون كعيون
إنسان) وفم يتفوه بألفاظ وقحة ضد العلي. ثم يحدث تغير في المشهد فيجلس الله
(القديم الأيام) على عرش من نار، تقف أمامه ربوات من الملائكة، (وتوضع الكراسي
وتفتح الكتب). إنه يوم الدينونة. عندئذ يقتل الحيوان الوقح وتبقى الحيوانات الأخرى
في قيد الحياة لكنّ (قدرتها تنزع منها). ثم يرى دانيال على سحب السماء شخصاً
قادماً (مثل ابن البشر) يقترب من القديم الأيام ويأخذ منه السلطان والمجد والملك،
فتأتي إليه جميع الشعوب من كل جنس ولسان ويعبدونه.

 

عندئذ
يسأل دانيال وهو ممتلئ خوفاً (عن حقيقة ذلك كله). فيأتيه الجواب أن الحيوانات
الأربعة هي ملوك أربعة سيتسلطون في الأرض ولكن (قديسي العلي يأخذون الملك ويحوزونه
إلى الأبد وإلى أبد الأبد) (دانيال 18: 7).

 

ويشير
السفر أيضاً إلى أن آخر ملك سيتميز بعنف محاربته لله العلي واضطهاده للقديسين.

 

إن
التلميح التاريخي واضح في كل هذا: فالحيوانات الأربعة تمثل الممالك الأربع التي
تنازعت السلطة على الشرق بين القرنين الخامس والثاني قبل المسيح، أعني بها ممالك
الكلدانيين والفرس والماديين واليونان (الإسكندر الكبير)، وآخرهم الأكثر وقاحة من
الكل ليس سوى أنطيوخوس أبيفانوس الذي داس الهيكل وقام باضطهادات دامية ضد (بقية
إسرائيل). هذا الملك يوصل الشرّ إلى ذروته، وعهده إشارة إلى النهاية، فيظهر الله
ظهوراً قوياً، سيداً وديناً للسماء وللأرض، ويعطي الملك والحكم للمسيح وقديسيه.

 

إذا
كنا قد أسهبنا في شرح هذا الإصحاح السابع من دانيال فلأنه سيصبح غاية في الأهمية
في العهد الجديد. فمنه على الأرجح أخذتْ عبارة (ابن البشر) التي تستعملها الأناجيل
للدلالة على يسوع. كما أن يسوع ذاته يعلن عن مجيء ابن البشر (قادماً على سحب
السماء) (مت64: 26). أما وجه أنطيوخوس أبيفانوس فيصبح رمزاً لعدو المسيح، وستطبق
الكنيسة الرسولية نبوءة دانيال تارة على إمبراطور روماني (كاليغولا أو نيرون: 2تسا
3: 2- 4 ورؤ13) وتارة على جاحد خرج من قلب الكنيسة (1يو 18: 2- 19). وكثير من رؤى
كتاب الرؤيا يأتي مباشرة من كتاب دانيال بشكله وصوره. كذلك فكرة الحرب التي يقوم
بها الملاك ميكائيل (دانيال1: 12) تعود في الرؤيا (7: 12). وكذلك سفر الحياة حيث
تكتب أسماء المختارين (دانيال 10: 7 و1: 12) يعود في الرؤيا (1: 5- 5).

 

إن
رسالة هذين الكتابين قد استخرجت من واقع واحد هو فترة اضطهادات مرّة، لذلك نجدهما
يرميان إلى تعزية غايتها تشديد إيمان المختارين من خلال رؤية ظفر الله في النهاية.

 

ومن
الوجهة التاريخية يأتي سفر دانيال بين أسفار العهد القديم الأخيرة، لذلك فهو يوجّه
أنظار المؤمنين، إلى الملك الآتي.

 

في
هذه الحقبة توقّف إسرائيل المؤمن توقفاً كلياً عن توقع مجيء ملك داود عن طريق مجرى
التاريخ. على العكس إنه يتوقع الآن عملية إلهية عظمى توقف مجرى التاريخ وتعلن عن
نهايته. وداود لم يعد يعني سوى ذلك الوجه الذي يبشر بالمُلك الآتي، ملك المسيح.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى