علم الكتاب المقدس

بدء الأزمنة



بدء الأزمنة

بدء
الأزمنة

(سفر
التكوين)

الخلق
والسقوط (تكوين إصحاح 1 إلى 11)

(فطرد
الرب الإله آدم وأقام شرقي جنة عدن الكروبين وبريق سيف متقلب لحراسة طريق شجرة
الحياة) (تك 24: 3)

الموجز

كلمة
التكوين تعريب لكلمة عبرانية تعني البدء أو الأصل. والإصحاحات الأحد عشر الأولى من
سفر التكوين تخبرنا عن أصول العالم والإنسان, كما تخبرنا كيف دخل الشر والموت إلى
العالم, وهي بالنسبة إلى شعب الله بمثابة أدوار ما قبل التاريخ بالنسبة إلى
التاريخ.

 

1-
الكلمة الخالقة: (تك 1 و2)

آ-
يخبرنا الكتاب المقدس بأن كل ما هو موجود منذ البدء لا يوجد ويستمر إلا بفعل كلمة
الله القادرة على كل شيء:

(وقال
الله..) (تك 1, 4 و1, 6 و1, 9.. الخ)

 

(إنه
قال فتولد كل شيء وأمر فوجد كل شيء) (مز 33, 9 و104 و148 وأيوب 38).

 

(في
البدء كان الكلمة) (يو 1، 1 وعبر11، 3).

 

ب-
العهد الجديد وحده يكشف لنا عن سر الكلمة الخالقة: ففي المسيح يسوع الكلمة الصائر
لحماً تتكشف لنا غاية الخليقة ومعناها الأخير (يو 1، 1- 18 وكو 1، 15- 20 وعبر 1،
1- 3).

 

2-
الإنسان (تك 1، 26- 31 و2, 7- 25 و5, 1- 2).

 

آ-
يبين الكتاب المقدس الأصل المزدوج للإنسان: فهو مخلوق من تراب الأرض (تك 2, 7) وهو
مخلوق على صورة الله:

 

(لقد
خلق الإنسان على صورته, على صورته خلقه, وقد خلقه ذكراً وأنثى) (تك 1, 26 و27).

 

(ومن
نسله نحن) (أعمال 17, 28).

 

ثم
ينيط الله بالإنسان حراسة الخليقة (تك 1, 28- 30 و2, 15 و19).

 

ثم
يعين الله للإنسان حدوده كمخلوق (تك 2, 16- 17).

 

أما
الصفة الفردية للإنسان التي تميزه عن سائر الخلائق فهي أن الله يكلمه وهو يجيب عن
كلام الله. وأن له الحرية في الخضوع لأمر الله أو عدم الخضوع له.

 

ب-
لم يعد في إمكاننا أن نعرف كيف كان إنسان الفردوس (المصنوع على صورة الله) ولكننا
في المسيح يسوع وحده (الذي هو صورة الله غير المنظور) وآدم الثاني (وكلمة آدم تعني
إنساناً) يكشف لنا مصيرنا الحقيقي (كو 1, 15 و2 كور 3, 18 و1 كور 15, 47- 49 ورو
5, 14).

 

3-
السقوط (تك3)

العالم
الذي نعرفه الآن ليس العالم الصالح الذي خرج من يدي الله ولكنه عالم الخطيئة
والموت, عالم مفصول عن الله.

 

آ-
كان عصيان الإنسان الرئيسي شكه في صلاح الله, وخروجه عن حدود كونه مخلوقاً, بعد أن
نصب ذاته حكماً للخير والشر (تك3, 1- 5) فنتج من ذلك لعنات ثلاث (تك3, 14- 19) ثم
جر الإنسان معه في السقوط الخليقة بأسرها.

 

ب-
ويأتي يسوع المسيح آدم الثاني ليسير في طريق معكوسة بالنسبة إلى طريق آدم الأول.
ويفعل ذلك بتواضعه الطوعي, وطاعته حتى الموت (فيلبي2, 5- 11 ورومية 5, 2- 19)
وهكذا يفدي الخليقة بكاملها ويفتح لها الباب إلى شجرة الحياة (رؤ 22, 1- 5 وكو 1,
19- 20 و1 كور 15, 20- 28).

 

4-
ملكوت الموت وبوادر النعمة (تكوين 4- 11)

 

آ-
منذئذ سلم الإنسان لقوى الشيطان (تك4, 3- 24 و6, 1- 7 و11) ولكن الله يحد من نتائج
الخطيئة بتدخلاته المتواصلة بالنعمة (تك4, 1- 4 و5, 24 و6, 8- 22).

 

ب-
ثم يعقد الله مع نوح اتفاق عفو, يتعهد بواسطته المحافظة على حياة البشرية (تك9, 1-
17).

 

ج-
وتأتي قصة برج بابل فترينا الإنسان وهو يريد أن يؤله ذاته, فتقع البشرية في
التشويش والانقسام. أما جواب العهد الجديد على قصة برج بابل فستكون عجيبة العنصرة
(أع2) ورؤية المدينة الجديدة (رؤ 21 و22).

 

سفر
التكوين هو أول الأسفار الخمسة من الناموس (2). وكلمة ناموس كانت تُطلق على أقوال
كاهن العرافة وكانت تعتبر تعبيراً عن إرادة الله.

 

فأسفار
الناموس الخمسة تكتشف لنا هذه الإرادة الإلهية بالنسبة إلى الشعب. إن فيها تشريعاً
كاملاً, ولكنها تحوي شيئاً أكثر من مجرد التشريع لا بل شيئاً آخر غيره. إذ يخبرنا
التكوين عن مشيئة الله بالنسبة إلى هذا العالم وهمّه مصير العالم ومصير الإنسان.
يخبرنا التكوين عن أصول الإنسان وأصول الخطيئة ويكشف لنا بالرغم من الانقطاع الذي
أحدثه السقوط أن إرادة الله لخلاص البشر لم تتوقف. وهذه الأنساب التي يذكرها تأخذ
مكان البرهان في أن الله يحافظ على سلسلة الأحياء في عالم الموت إلى أن يقيم شعباً
يصبح هو أداة الخلاص ويكون سلسلة جديدة من النعم تسير من ابراهيم إلى يسوع المسيح.

 

في
سفر التكوين إذاً ما يبدو وكأنه بدء مضاعف: أولاً بدء تاريخ العالم (إصحاح 1- 11)
وثانياً بدء تاريخ الشعب المختار (إصحاح 12 فما بعد).

 

في
هذه الإصحاحات الأولى توجد بصورة مُسبّقة وفي حيّز الإمكان كل مأساة الإنسان التي
ستختتم على الصليب وتنتهي بتجديد كل شيء بيسوع. من هنا نشأت أهميتها الكبرى لفهم
الكتاب المقدس بكامله.

 

الخلق والسقوط: 1- الكلمة الخالقة: (قال الله)..

يُفتتح
الكتاب المقدس بهذه الكلمات المليئة بالمغزى: (في البدء خلق الله السماوات والأرض)
(تك1: 1).

 

إن
الله يوجد منذ الأزل: (من قبل أن ولدت الجبال وأنشأت الأرض والمسكونة, من الأزل
إلى الأبد أنت الله) (مز90: 2).

 

لكن
عقلنا البشري عاجز عن فهم أي شيء عن هذا الإله الذي يوجد قبل كل الأزمنة. (فالبدء)
بالنسبة إلينا نحن المخلوقات المحدودة هو الهنيهة التي فيها يضع الله أمامه حقيقة
ثانية بالنسبة إليه أعني العالم المخلوق. وتقاس صغارتنا كخلائق بهذا بالضبط أننا
غير قادرين أن نعقل الله في ذاته ولكن فقط في علاقاته بنا, أعني فيما يريد أن
يكشفه لنا عن ذاته بكلامه وأعماله.

 

(وقال
الله ليكن نور فكان نور). تتردد في الكتاب عبارة (قال الله) في القسم الأول من
الإصحاح الأول في التكوين والمقصود بهذا الترديد تعليمنا أن عالم المادة ليس
إشعاعاً من الله كما يريده الحلوليون, كما أنه ليس معايشاً لله منذ البدء كما يقول
الفلاسفة الثنائيون, ولكنه صُنع كلمته. (إنه قال فكان الخلق وأمر فوجِد) (مز33, 9).
لقد خلق الله العالم وهو سيده وربه. وبما أنه خلقه بفعل حرّ من إرادته المطلقة ففي
مقدوره إبادته وفي مقدوره خلاصه. هذا يفسر كيف أنه في أحلك حقبات تاريخ إسرائيل
كان النبي ومؤلف المزامير يتوجهان بالنداء بكل ثقة إلى خالق السماء والأرض. وكل من
يضع سلطة الله الخالقة موضوع شك يصل حتماً إلى الشك في خلاص العالم. هذا العالم,
عالم الله, مولود من نفخة فمه الإلهي. لذلك فالكلمة الأخيرة فيما يخصه تعود إلى
الله وإليه وحده. وبما أن الله هو خالق العالم لذلك فهو يقود تاريخه بسلطان بالرغم
من كل الظواهر المعاكسة لإرادته. هذا إيمان الأنبياء (اشعيا: 40: 12- 26 وارميا 10:
12- 16..الخ) وإيمان المسيحي (رومية 11: 36).

 

لا
يعتقد المادّيون إلا بما يقع تحت حسهم وهم يعتبرون الروح إشعاعاً للمادة ويقصدون
بذلك أن المادة السنجابية في المخ هي التي تولد الفكر. أما الكتاب المقدس فيعترف
بأن سلطان الله الغير المنظور على العالم المنظور, أي سلطان ما هو روحي على ما هو
مادي, حقيقة معلن بها أعني موضوع إيمان: (بالإيمان نفهم أن الدهور أُتقنت بكلمة
الله حتى أن المنظورات صُنعت من غير المنظورات) (عبر11: 3). على هذه الحقيقة
الإيمانية المبدئية يرتكز إعلان الكتاب المقدس ويستند. إن وجه هذا العالم يعْبُر
ولكن إلهنا يدوم. (السماء والأرض تزولان وكلامي لا يزول) (متى24: 35).

 

يرى
المفكرون الهنود مع بعض الإغريق أن العالم في حالة انتهاء وابتداء أبديين وأن عجلة
التاريخ تدور كما تدور الفصول فتولد الحضارات وتموت. أما الإعلان الإلهي في الكتاب
فإنه يعلمنا أن لهذا العالم معنى وهدفاً ونهاية, وأن الله خلقه من أجل مجده الإلهي.
التاريخ الكتابي يسير في اتجاه واحد من الخليقة الأولى نحو الخليقة الثانية
بالمسيح (رؤ1: 21) ومركزه هو مأساة التجسد. لذلك فإن الصفحات الأولى من الكتاب
المقدس لا تفهم إلا في ضوء صفحاته الأخيرة, فهي المقدمة والخاتمة لمأساة الصليب
وأعني بها تاريخ فدائنا.

 

وفي
الصفحات الأخيرة للكتاب يُعلن عن سر الكلمة الخالقة: تلك الكلمة التي بها يخلق
الله ويدين ويخلّص العالم هي ابنه: (أنا هو الألف والياء, البداية والنهاية) (رؤ6:
21) (أنا هو الكائن والذي كان والذي يأتي) (رؤ1: 4- 8). الشاهد الحقيقي الأصيل هو
كلمة الله بالذات (رؤيا19: 11- 16). ويستهل القديس يوحنا الرسول مقدمة إنجيله بهذه
الكلمات المعروفة التي ترّجع صدى الأسطر الأولى في سفر التكوين: (في البدء كان
الكلمة والكلمة كان لدى الله والكلمة كان الله هذا كان في البدء عند الله, كلٌ به
كوّن وبغيره لم يكن شيء مما كوّن. فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس.. وكان
الكلمة في العالم والعالم به كون والعالم لم يعرفه). إن هذه الكلمة التي بها خُلق
العالم هي ذاتها صارت جسداً في يسوع الناصري: (وسكن بيننا.. وقد رأينا مجده) (يو1:
1- 4 و10 و14). يسوع المسيح هو (النور الحقيقي للناس) وما النور الذي يضيء العالم
المنظور سوى صورة عنه. إنه وجه الله الملتفت إلى العالم. ومحبة الآب المعلنة في
الابن هي المبدأ المحيي الذي يسيطر على العالم منذ البدء, وهو مصدر كل نور وكل
حياة.

 

ويتوسع
بولس الرسول في هذه الفكرة ذاتها عندما يكتب عن الله ويقول: (لقد اختارنا في
المسيح قبل خلق العالم.. وهيأنا مسبقاً في محبته لنصبح أولاده المتبنين بيسوع
المسيح) (أفسس1: 5). (كل شيء به كوّن مما في السماوات وعلى الأرض مما هو منظور
وغير منظور سواء كان عروشاً أم سيادات أم رئاسات أم سلاطين, الكل به وله قد خلق
الذي هو قبل كل شيء وفيه يقوم الكل) (كو1: 16- 17). وتأتي الرسالة إلى العبرانيين
فتعود إلى التشديد بأن: (بعد أن كلّم الله آباءنا في الأنبياء مرات متعددة وبوسائل
مختلفة كلمنا في الأزمنة الأخيرة بابنه الوحيد الذي يرثه في كل شيء والذي به صنع
العالم, هذا الابن الذي يدعم الكل بكلمته القادرة لكونه شعاع مجد الآب وختم شخصه)
(عبر1: 1- 3).

 

هذه
الكلمات تُلقي ضوءاً على الكلمات العجيبة التي قالها يسوع: (قبل ابراهيم كنت أنا)
(يو8: 58).

 

ويعمل
الابن الحاضر, دون أن يكون منظوراً, في العالم منذ البدء ويقوده إلى مصيره. (أبي
يعمل حتى الآن وأنا أيضاً أعمل) (يو5: 17). إنه الكلمة المحيية التي تخلق العالم
وتحفظه في الوجود وهو الحكمة (السرّية المكتومة) التي يتكلم عنها بولس الرسول
(1كو2: 6- 9) والحاضرة منذ بدء الأزمنة: (لقد كنتُ بجانب الإله الأزلي عندما بدأ
أعماله وكنت قبل أقدم خلائقه بقربه.. كنت عنده مهندساً وكنت لذاته كل يوم ولم
أنقطع عن التمتع بحضرته) (أم 8: 22- 31).

 

إن
الكلمة الأبدية التي يقولها الله العالم هي ابنه الوحيد وهي تضم في سرها
ووحدانيتها كل الكلمات التي لفظها الله منذ بدء العالم وفيها وحدها يعلن لنا معنى
الخلق وسره وهذا السر هو سر المحبة. إرادة الله الخالقة هي إرادة محبة لأنها تقدم
لذاتها موضوعاً لتحبه وتشاء أن يحبها هو بدوره.

 

أما
الأداة لهذه المحبة فهي الروح القدس. يكتفي سفر التكوين بالقول: (وكان روح الله
يرفرف على المياه) (تك1: 3) ولكن الروح يعمل من أول صفحة في الكتاب إلى آخر صفحة,
فهو يسهر على فوضى الخليقة الأولى وهو الشاهد المعلن عن الخليقة الثانية (أع1: 4-
8 و2: 16- 21 ورؤ22: 6 و17).

 

والحق
يقال أن الصفحة الأولى من سفر التكوين بالرغم من عظمتها وجمال بنائها تبقى بالنسبة
إلينا صفحة مختومة مغلقة إذا لم نقرأها في ضوء المسيح والروح القدس وإذا لم ننظر
إليها بمنظار اختيارنا في المسيح ومنظار تلك (الخليقة الجديدة) التي أُعطيت لنا
كوعد لآخر الأزمنة. هذه الخليقة هي التعويض النهائي والممجَّد لعالم التكوين الذي
خُلق للحياة, ولكن خيانة المخلوق سبّبت جرّه إلى الضلال والموت.

 

الخلق والسقوط: 2- الإنسان

يخرج
الله من عزلته الإلهية ويضع عالماً يكون بمثابة مثل عن محبته الخالقة. يخضع هذا
العالم لنواميس، فالنهار يأتي بعد الليل والليل بعد النهار وكل خليقة موجهة إلى
نهايتها ولها مكانها الخاص في التصميم الإلهي.

 

لكن
ها الله يخلق الإنسان، وهذه الخليقة المصنوعة من تراب الأرض يمّيزها الله عن سائر
المخلوقات: فهو يبعث فيها الحياة بنفخة من فيه (تك2: 7) ويخلقها (على صورته
ومثاله) (تك1: 26 و5: 2 وأع 17: 18). هي فريدة من حيث أن الله يكلمها وهي تجيب. ثم
يهب الله الإنسان قسطاً من سلطانه وينصبه ملكاً على الخليقة (تك1: 26- 30) ويجمع
له كل حيوانات الأرض لكي يعطيها أسماءها (3) فينظر الإنسان على العرض المار أمامه
فلا يجد خليقة تشبهه، إلى أن يجلب له الله نظيره الحقيقي (العظم من عظامه واللحم
من لحمه) أعني المرأة (تك2، 19- 23).

 

وتجدر
الملاحظة بأن في نص التكوين (27،1) خلق الله الزوج البشري على صورته: (خلق الله
الإنسان (4) على صورته، خلقه على صورة الله، ذكراً وأنثى خلقه). الله محبة.
الثالوث الأقدس لا يظهر بوضوح في سفر التكوين ولكنه كما رأينا حاضر بطريقة خفية
فيه، فالله في جوهره هو ذاك الذي يبذل نفسه. والإنسان بمفرده لا يقدر أن يعكس
الإله المحبة، فما يمكن أن يعكس شيئاً من كيان الله هو الزوج البشري، الرجل
والمرأة، تلك الوحدة التي تؤلفها العائلة. وليس في إمكان شيء أن يلفتنا إلى عظمة
الدعوة البشرية أكثر من هذه النعمة التي يقدمها الله للرجل والمرأة حتى يتمكنا من
تبادل ملء العطاء – كما أنه هو أعطى ذاته لخاصته – ولكي يتمكنا من أن يولّدا حياة.
هذه الفكرة سيتناولها القديس بولس يوماً من الأيام ويقول: (أيها الأزواج أحبوا
نساءكم كما أن المسيح أحب الكنيسة وبذل نفسه من أجلها) (أفسس 25،5). هنا أيضاً لا
يفعل نص التكوين في إيجازه المعروف إلا أن يضع حجر الأساس لحقيقة يُظهر الإنجيل
وحده معناها ومداها.

 

نحن
لا نعرف اليوم كيف كان إنسان الفردوس (المخلوق على صورة الله). لأن سر دعوتنا
ومصيرنا كبشر قد أظلمته الخطيئة. ولكي نعرف ما هو الإنسان يجب أن نلتفت إلى
الإنسان الوحيد المستحق لهذا الاسم، ذاك الذي قال عنه بيلاطس متنبئاً: (هو ذا
الإنسان) (يو5،19). إنه (صورة الله غير المنظور) (كو15،1) وذال الذي فيه يعلَن ويعطى
مصيرنا الحقيقي كأبناء (رو8، 14- 16). نحن نرى (مجد الرب كما في مرآة) ونحن (نتغير
إلى صورته من مجد إلى مجد بروح الرب) (2كور18،3). فما كان يجب أن يحصل في آدم
الأول تمّ لنا فعلاً في يسوع المسيح.

 

ولكن
ما الذي حدث بين الاثنين؟ الجواب كل مأساة حريتنا لأن الصفة الخاصة لدعوتنا كبشر
هي في أننا على عكس المخلوقات الأخرى يمكن أن نقول لله نعم ويمكن أن نقول له لا،
لأن الإنسان ليس مقيداً بنواميس جامدة إلى إرادة الخالق. فالنجوم في السماء تسير
في مدارها وحيوانات الحقل تخضع لغرائزها ولكن للإنسان ملكته الفريدة والمخيفة التي
تؤهله إلى رفض الطاعة لخالقه لأن الله لا يريد عبيداً بل أبناء.

 

ويهب
الله الإنسان كل ثمار جنة عدن وكل خيرات الأرض ولا يفرض عليه سوى حد واحد هو آلا
يأكل من ثمر شجرة معرفة الخير والشر.

 

فما
معنى هذه الشجرة الرمزية؟ إنها الخط والحد بين المخلوق والخالق لأن الله وحده يعرف
الخير والشر، والخير ليس سوى إرادته هو. وتنصيب الإنسان نفسه حكماً للخير وللشر
يعني (جعل نفسه إلهاً).

 

الخلق والسقوط: 3- السقوط

إن
العالم الذي نعرفه اليوم ليس بالعالم الصالح الذي ورد وصفه في الإصحاح الأول من
سفر التكوين. إنه على العكس عالم تسلطت فيه الخطيئة والألم والموت.

 

لا
يحاول الإصحاح الثالث من سفر التكوين أن يشرح لنا أصل الشر لأنه لا يخبرنا من أين
أتت الحية (5) ولكن الحية كما تجب الملاحظة خليقة وليست مبدأ أزلياً كان يعايش
الله. ويسمح الله بأن يجرب الإنسان بواسطة الحية ولكن يأتي يوم يولد فيه مخلص
العالم من نسل حواء ويسحق للحية رأسها (تك5،3). ولا يستمر سلطان الشر إلا زمناً
محدوداً (1كو15، 24- 26 ورؤ12، 7- 12).

 

ولكن
النص نفسه يخبرنا بوضوح تام عن واقعية الخطيئة ونتائجها. تبدأ الحية أولاً بزرع
الشك في قلب حواء فتسألها: (هل قال الله حقاً؟..) (لنذكر عبارة (إنْ كنتَ)
المذكورة في تجربة المسيح في الصحراء متى 4). هذا السؤال يُحدث شقاً في الحب
البنوي الذي يكنه المخلوق لخالقه. وفي هذا الشق سيدخل إسفين القول: (لن تموتا
مطلقاً.. لكن الله يعرف أنه يوم تأكلان من هذا الثمر تنفتح أعينكما وتصيران مثل
الله عارفين الخير والشر).

 

التجربة
المتواصلة والتي هي التجربة الشيطانية الحقيقية للإنسان هي في تأليه الذات. ولا
يفكرن أحد بأن المقصود هو حب العظمة الذي نشاهده عند أقوياء هذا الدهر السكارى
بالكبرياء والمتعطشين للسلطان (حز1: 28- 10). تأليه الإنسان هو أن يجعل المرء نفسه
محوراً لعالمه مهما بلغ صغر هذا العالم أم كبره وأن يفتش عن مجده الشخصي لا عن مجد
الله وأن يريد التصرف بذاته بدون قيد بدل أن يتسلم حياته من يدي الله، بكلمة أخرى
أن يريد الانتماء إلى ذاته بدل الانتماء إلى الله وأن يسيطر بدل أن يخدم.

 

والنتيجة
الأولى لخطيئة آدم وحواء كانت أنهما خرجا من البراءة الأولى في علاقاتهما
المتبادلة فقد شعرا أنهما عريانان. والثانية أنهما هربا من وجه الخالق. ومن ثمار
الخطيئة أن الإنسان لا يعود يتحمل تعرف الله إليه بل يهرب من أمام وجهه. ومنذئذ
يصبح يتهيب ويخافه بينما هو خلق لكي يحبه فيهرب من أمام عينيه، لأن نور الله الذي
يبهج الصديق يصبح بالنسبة إلى الخاطئ ناراً محرقة: (لا يمكن لأحد أن يراني ويحيا)
(خروج20،33).

 

ويمتد
الانقطاع ليس إلى علاقات الإنسان بالله فقط ولكن إلى كل العلاقات البشرية. لقد فقد
الناس شفافيتهم ولا يجسرون على تمني استعادتها لأنهم يخجلون من كشف عري كيانهم
(الجسدي والقلبي والروحي) ولذلك فالبشرية تحيا في الكذب. والناس لا يختبئ الواحد
فقط بالنسبة إلى الآخر ولكن بالنسبة إلى ذاته أيضاً. ونعمة الله من الآن فصاعداً
تسعى لإيقاف هذا الهرب وتضغط على الإنسان حتى يبصر نفسه كما هي، وفي هذا فقط منطلق
ممكن لعودة حقيقية إلى الله.

 

يعاقب
الله الرجل والمرأة ولكن هذا العقاب ذاته، ككل عقاب من الله، يضم نواة نعمة
وإمكانية خلاص، لأنه الامتحان الخلاصي الذي يقود الرجل والمرأة إلى معرفة حقيقية
لذاتيهما (إذا استسلما لذلك).

 

إن
الله يركز أولاً علاقة الزوجين البشريين على قاعدة جديدة فيُذلّ المرأة ويخضعها
ليد الرجل ويذل الرجل بوضعه إياه أمام خليقة أصبحت هي بدورها متمردة، بسبب خطيئته،
وصارت تقاومه. وهكذا فإن الله يضع الرجل والمرأة كلاً في حقله في مدرسة الألم، دون
أن يحرمهما فرح الاتحاد الزوجي وفرح الولادة وفرح العمل. لكن هذه لا تأتي إلا بعد
دفع ثمن من الصراع ومن الألم ومنذئذ يصبغ الوجع كل سبل الرجل والمرأة على الأرض،
فمَن قبله انقلبت النقمة عليه نعمة.

 

ثم
يبرهن الله للرجل والمرأة بأن رحمته تنزل عليهما في وضعهما الجديد البائس بالضبط
إذ يبدأ بتغطيتهما ويعطيهما (أقمصة من جلد).

 

ثم
يطردهما الله من فردوس لم يعد له وجود لأن استمرار الحياة خارج الشركة مع الله
يصبح أسوأ من الموت. فلكي تعود البشرية إلى الشركة الإلهية عليها أن تجتاز الموت
وتعرف عجيبة القيامة، ولن تقدر أن تخلص إلا إذا (وُلدت من جديد) (يو3،3).

 

لقد
أطلق العهد الجديد على المسيح يسوع اسم آدم الثاني: إن آدم الأول ضلَّ لدى تناوله
من الثمر المحرم وخروجه عن نطاق حدوده كمخلوق وإرادته أن يصبح إلهاً. أما المسيح
ابن الله فسيأخذ في ذاته طوعاً هذه الحدود بقبوله أن يصير إنساناً بين الناس،
وبخضوعه حتى الموت سيفتح للبشر طريق الخضوع الحرّ البهج، طريق شجرة الحياة (فيلبي5،2-
11 ورؤ1،22- 2).

 

الخلق والسقوط: 4- ملكوت الموت وبوادر النعمة (تك 4 – 11)

بعد
أن طُرد الإنسان من الفردوس دُفع إلى قوى الشر. فقايين ونسله يجسّدون ثورة الإنسان
ضد الله بما فيها من ثمار مرة كالحسد والحقد والقتل (تك1،4- 20). والإصحاح السادس
من التكوين يلفتنا من جديد إلى خطيئة البشرية التي تتخطى حدودها فتستجلب على ذاتها
غضب الله. هذه الإصحاحات تُبرز بطريقة مخيفة أن ثمر الخطيئة هو الموت.

 

ولكن
شعاعاً من النور يخترق هذه اللوحة المظلمة، فيبدو الله دائماً إله غفران وعفو. لقد
أعطى علامة لقايين ذاته (تك15،4) حتى (إذا صادفه أحد لا يقتله)، ثم أعطاه أيضاً
نسلاً (تك17،4- 24). ويضع الكتاب المقدس مُقابل قايين ن جماعات منهم بجانبه ولم
تعرفه. أخاه هابيل الذي يجد حظوة في عيني الله، ومقابل أبناء قايين أبناء شيت،
وهؤلاء يقول الكتاب عن اثنين منهم على الأقل أنهما (سارا مع الله) (تك24،5 و9،6
وعبر4،11- 7).

 

أما
فلك نوح الذي تتقاذفه الأمواج وتحمله مياه الطوفان فيرمز إلى الخلاص الآتي، إلى
الكنيسة المنتشَلة من ضلال العالم (1 بطرس21،3). وقد يكون من الممكن أن نرى فيه
بادرة إعلان الخليقة الجديدة. ألم يقل أن كل أجناس الحيوانات كانت ممثلة فيه؟
ويدخل الله في عهد نوح فيتعهد بألاّ يهلك البشرية من بعد. وهذا العهد ليس فقط مع
نوح المؤمن ولكن مع الخليقة جمعاء من خلاله. فالله يعيد إلى الإنسان الوكالة على
العالم. ولكن الإنسان يصبح منذ الآن سيداً مخيفاً يُسمح له أن يذبح الحيوانات
ويأكل ليعيش بينما كانت خلائق الفردوس لا تأكل سوى العشب (تك29،1- 30). غير أن
وحدة الجنس البشري قد تثبتت رسمياً وحُكم على الجريمة: (سأطالب بروح الإنسان أيّ
إنسان ضربت يده أخاه، وكل من يُسيل دم إنسان يُسال دمه هو أيضاً لأن الله خلق
الإنسان على صورته) (تك5،9 و6). إن عهد الله هذا مع نوح هو وعد بالمحافظة على
الحياة وبتثبيتها قد أعطي للبشرية بكاملها، ولكنه يجيء مزدوجاً مع وصية تُلزم
أيضاً البشرية بكاملها. وهذه الوصية تقضي باحترام الحياة.

 

في
الإصحاح الحادي عشر من التكوين نرى البشرية تتكلم (لغة واحدة). ولكن هذه الوحدة
أقامت الشعوب ضد الله. فقد طمعوا بأن (يصنعوا لأنفسهم اسماً) ويتسلقوا السماء (ولا
شك أن الكتاب هنا يتكلم عن هيكل جبار). ها هي التجربة التي حصلت في الإصحاح الثالث
من التكوين تتجدد الآن على صعيد جماعي فإذا بالمجتمع البشري يؤلّه ذاته. فكان أن
أنزلهم الله عن البرج وأوجد تعدد اللغات فلم يعد من تفاهم في البشرية. وبنتيجة ذلك
ستقوم الأمم الواحدة ضد الأخرى مناصبة إياها العداء.

 

ولكن
البلبلة هذه تجد يوماً الرد الحقيقي عليها في معجزة العنصرة، لأن الروح القدس وحده
يمكن أن يعيد الوحدة المهدَّمة. ومنذ الآن فصاعداً تفشل كل المحاولات البشرية
لبناء وحدة الشعوب ما دام كبرياء الإنسان لا يُحطّم، خصوصاً وأن طموح الإنسان خلال
التاريخ يبقى دائماً (أن يجعل لنفسه اسماً). ولذلك فليس للشعوب أو للأفراد سوى اسم
واحد يمكنهم أن يخلصوا بواسطته (أع12،4). وتبقى بابل في كل تاريخ الكتاب رمز
الكبرياء المؤلّه والقوة السياسية التي تطمع في التسلط على العالم مادياً وروحياً.
ولذلك تُختم رؤيا يوحنا بمنظر الخراب النهائي لبابل التي ترمز إلى كل الشرور
الهائجة والمنفلتة من القيود (رؤيا18) وبمنظر المدينة الجديدة التي تأتي من عَلُ
لا من تحت (يضيئها مجد الرب والحمل سراجها، الأمم تسير في نورها وملوك الأرض يأتون
بمجدهم إليها) (رؤ24،21).

 

القسم الثانى: تقدم الأزمنة

من إبراهيم إلى يسوع المسيح

مقدمة

(لو
أن رجلاً واحداً كتب سفراً تنبأ فيه عن مجيء يسوع في ذلك الميعاد وتلك الطريقة ثم
أتى يسوع طبقاً لتلك النبوءات لكان في ذلك قوة لا حدّ لها).

(غير
أن هنا ما يفوق ذلك بكثير لأن سلسلة من الرجال خلال أربعة آلاف سنة كانت تأتي بدون
انقطاع وتتنبأ عن هذا الحدث بذاته دون تبديل، ولأن شعباً كاملاً أنبأ به ودام منذ
أربعة آلاف سنة لكي يشهد بكامله للضمانات التي أُعطيت له والتي لا يمكن أن ينحرف
عنها مهما كان التهديد ومهما كانت الاضطهادات. إن هذا لأعظم بكثير). باسكال

يتعذر
علينا في هذه العجالة أن نصور تاريخ إسرائيل بكامله. لذلك فسنركّز دراستنا على خمس
حقبات رئيسية فيه:

 

1-
الله يدعو الشعب المختار حين يدعو ابراهيم: هنا شخصية ابراهيم تأخذ معنى رمزياً في
كل تاريخ الخلاص ولذريته يأتي الوعد بالاختيار.

 

2-
عهد سيناء: وهنا يستخدم الله موسى لينقذ إسرائيل من العبودية المصرية ثم يرتبط
بالشعب الذي أنقذه بعهد رسمي ويعطيه الناموس.

 

3-
دخول إسرائيل أرض الميعاد: وهذا الدخول هو التحقيق الرمزي والمادي للوعود التي
أعطيت لابراهيم وموسى. وفيه قمة حياة إسرائيل كشعب، أعني عهد الملك داود وفيه
يجتمع العرش والهيكل فإذا بهما العلامتان الحسيتان لحضرة الله في وسط شعبه.

 

4-
سبي بابل: وفيه يجلب الشعب المختار على ذاته حكم الله ودينونته بسبب عصيانه،
فتدوّي في الجو بشارات الأنبياء. هذا السبي يعني الإخراج من أرض الميعاد إخراجاً
موقتاً، فيبقى إسرائيل خلال هذه الفترة بدون ملك وبدون هيكل، ولم يعد في إمكانه
توقع الخلاص إلا من الله وحده كما حدث له تماماً في الصحراء.

 

5-
إن (بقية) فقط من إسرائيل تعود إلى أرض الميعاد، وتصبح الأمة مجرّد جماعة دينية
تعيش في انتظار المسيح الذي سيبني ملكوت الله.

 

إن
الكتاب المقدس يقسم تاريخ الشعب المختار إلى ثلاث حقبات متساوية، الأولى من
ابراهيم إلى داود، والثانية من داود حتى سبي بابل، والثالثة من سبي بابل إلى يسوع
المسيح (متى17،1).

 

وفي
هذا التقسيم تبرز الأهمية المعطاة لملكية داود من حيث أنها (إشارة) للمُلك الآتي.
وفي الواقع أنها تمتد في الزمن بمقدار ما بقي إسرائيل في أرض الميعاد. أما الحقبة
التي تسبق هذه – أعني من ابراهيم إلى داود – فهي سير في الإيمان نحو أرض الميعاد.
والحقبة التي تليها هي أيضاً سير في الإيمان ولكن لا نحو الاستتباب الزمني. فإن
الله يختار بقيةً يعلّمها في مدرسة التجارب أن تنتظر الملك الذي ليس من هذا العالم.
هكذا يمهد الله السبل لقدوم ابنه وهكذا تسير الأزمنة وتدور حتى وصولها إلى هذه
النقطة التي حددها الله ووصفها الكتاب المقدس بقوله: (لقد أتى ملء الزمان) (مر15،1
وأفسس10،1).

 

إبراهيم أبو المؤمنين (تك 12 إلى 50)

الموجز

هذه
الإصحاحات 12 إلى 50 من سفر التكوين تخبرنا عن بدء تاريخ الخلاص أعني تاريخ الآباء.
ففي الإصحاحات 12 إلى 26 الوعد الذي أعطاه الله لابراهيم واسحق ابنه، وفي
الإصحاحات 27 إلى 50 الصراع الذي خاضه وارثو هذا الوعد أعني يعقوب وأولاده.

 

1-
الإله الحي: (إله ابراهيم واسحق ويعقوب)

آ-
يعلن الله عن ذاته للآباء بأنه الإله الحي، (إله ابراهيم واسحق ويعقوب لا إله
الفلاسفة والعلماء). وتظهر حريته المطلقة في مجانية دعوته وفي وعوده التي لا يحنث
بها ومتطلباته ذات الطابع المطلق.

 

ب-
إن إله يسوع المسيح نفسه ليس سوى (إله ابراهيم واسحق ويعقوب)، إله إسرائيل، الإله
الحي (تك7: 15 و9: 32 و28: 32 وخروج 15: 3 وتثنية4: 24 والملوك الأول36: 18 و37
وأع 13: 3).

 

2-
أمر ووعد

آ-
يعبر الله عن اختياره الحر بأمر ووعد: (انطلق من أرضك.. وسأباركك) وهكذا يجب على
ابراهيم أن يترك عائلته ووطنه وآلهته ويحيا فقط بالإيمان الوحيد بالوعود التي
أعطيت له حتى يصبح أداة لخلاص الشعوب (تك1: 12- 3 وعبر8: 11- 16).

 

ب-
ثم يرزق ابراهيم ابنين اسماعيل الابن بحسب الطبيعة واسحق الابن بحسب النعمة الذي
ترتكز عليه الوعود. واسحق هذا الذي سيعطى إلى والده ثم يؤخذ منه لكي يعطى له ثانية
كما لو كان (بقيامة) (عبر19: 11) يعلن عن الابن الحقيقي الذي فيه ستتم يوماً
الوعود التي أعطاها الله لابراهيم (متى 1: 1 وغلا 16: 3 ويو 56: 8).

 

3-
العهد

آ-
رئيس الكهنة مليكصادق يبارك ابراهيم باسم الإله العلي (تك17: 14- 20 وعبر 1: 7-
10).

 

ب-
ثم يلتزم الله مع ابراهيم وذريته (بعهد دائم) (تك15 و7،17) لا يمكن أن يزول مفعوله
(غلا 17: 3 ورو28: 11 و29). غير أن هذا العهد يبقى عهد نعمة، ركيزته اختيار الله
الحر لشعبه (اشعيا8: 41- 14).

 

4-
ابراهيم أبو المؤمنين

آ-
ليس الآباء قديسين بالضرورة بل هم رجال يخطئون كما نخطئ ولكنهم يؤمنون بوعود الله
ويحيون تحت حكمه. أما لقاؤهم بالله الحي فمعركة (تك12: 15 وتك22 وتك24: 32- 30)
يخرجون منها محطمين ولكنهم ظافرون.

 

ب-
ذرية ابراهيم الحقيقية ليست هي الذرية بحسب اللحم والدم ولكن تلك التي بحسب
الإيمان (متى 7: 3- 10 و10: 8- 12 ويو 33: 8- 41 ورو 3: 4 و16: 4- 25 وغلا 6: 3- 9
و26- 29 ويع 18: 2- 23).

 

1- الإله الحي (إله ابراهيم واسحق ويعقوب)

لقد
خطا باسكال في ليلة اهتدائه خطوة فريدة عندما كتب في مفكرته هذه الكلمات: (إله
ابراهيم واسحق ويعقوب لا إله الفلاسفة والعلماء!) لأن الإيمان بمبدأ أول يدير
الكون كان سهلاً بالنسبة إلى باسكال رجل الرياضيات والفلسفة، ولكن ها هو الله الحي
يدخل في حياته فيطرح كبرياءه وعقله جانباً فيجد باسكال إلهه هو في الإله الذي منذ
آلاف السنين اختار رئيس عشيرة بدوية لكي يكوّن لنفسه منه شعباً. وإله الكتاب هذا
عنده طرق غريبة فهو ينتزع ابراهيم من حضارة الكلدان المتقدمة لكي يجره عبر الصحاري
نحو المجهول في بلد لن يملك فيه سوى القبر. ثم يعد هذا الإنسان بذرية ولكنه يتريث
إلى أن يصبح عمره مئة سنة وعمر سارة امرأته تسعين عاماً قبل أن ينعم عليهما بطفل
(يثير الضحك) (تك17: 17 و13: 18). ثم لا يلبث الطفل أن يكبر فيطلب الله إلى الأب
بوحشية أحد ملوك فينيقيا أن يذبح ابنه. ثم إن يعقوب الكاذب المحتال يرث أباه اسحق
إذ يفضّله الله على أخيه دون أن يعطينا ولو ظلاً من سبب لذلك التفضيل.

 

هذا
هو إله ابراهيم واسحق ويعقوب الذي يتنازل باسكال أمامه عن كل حكمة بشرية. ولماذا؟
لأن هذا الإله أعلن عن ذاته لباسكال أيضاً أنه (نار) محرقة، ولأن هذا الإله هو ذاك
الذي اعترف به يسوع المسيح وأعلنه أباً له، ولأنه حيث لا نجد بالبديهة البشرية سوى
حجر عثرة يعلن لنا الإيمان قصة أخرى هي قصة إله يهتم بالبشر، إله لا يعتقد أن
كرامته تنحط إذا تنازل إلى واقع كياننا اليومي العادي، إله يلاحق البشر حيث وُجدوا
حتى في بلاد أور الكلدانيين، وهو بطريقة عجيبة مجانية يجعل المستحيل معقولاً،
ويكشف لهم عن ذاته، ويكلمهم، ويناديهم، ويخلصهم – ويكاد يكون ذلك بالرغم منهم في
كل الأحيان. هذا الإله منذ ابراهيم إلى يسوع المسيح يبقى هو هو، أميناً على الدوام
لالتزاماته.

 

والحلقة
الأولى من سلسلة التدخلات الإلهية التي نسميها تاريخ الخلاص كانت الفعل الذي به
أخذ الله إنساناً نكرة – أبرام – وانتزعه من بلاده وعشيرته وآلهته، وقوّم إيمانه
بالامتحان، إلى أن أصبح أبرام ابراهيم، أبا المؤمنين. وهناك في طرفي السلسلة
هضبتان قريبتان من بعضهما جغرافياً أعني موريجا والجلجلة، الأولى صخرة ذبيحة اسحق
والثانية خشبة صليب المسيح، اللتين عليهما تتحطم حكمتنا البشرية (6).

 

2- أمر ووعد

كانت
الكلمة الأولى أمراً قاله الله لابراهيم: (انطلق من أرضك وعشيرتك وبيت أبيك إلى
الأرض التي أريك) (تك1: 12).

 

هذا
الرجل ابراهيم ليس لوحده. لأن عنده امرأة وخداماً وأملاكاً وهو لم يعد شاباً، ولا
يزال بدون أولاد. ولكنّ الله يأمره بأن (ينطلق) نهائياً، فيترك الطمأنينة التي
كانت له في مدينة أور، تلك التي نعرف عنها اليوم أنها في السنة الألفين قبل المسيح
كانت مدينة غنية متقدمة في الحضارة. ينطلق ابراهيم ولكن ليعمل ماذا؟ لكي يذهب إلى
بلاد مجهولة وعد الله بها لذريته (وهو لا يزال بدون ذرية)، بلاد لن يملك فيها هو
ذاته إلا قبره، يترك الاستقرار ويعيش حياة تيهٍ يذوق فيها المجاعة (تك10: 12)
والقتال (تك13: 14- 14) ينطلق ولكن لسبب واحد هو أن الله أمره بذلك.

 

فعندما
يتكلم الله يجب أن يشرع الإنسان بأن ينطلق. هذه الكلمة (انطلق) تلعلع من أول
الكتاب المقدس إلى آخره. (كل من يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء لا يصلح
لملكوت الله) (لو 62: 9). هذه الكلمة (انطلق) تُرعبنا ولذلك لا نرغب كثيراً بأن
يكلمنا الله.

 

أما
ابراهيم فلا يعبّر عمّا يخيفه أو لا يخيفه بل يطيع وحسب، ومعه تبدأ المغامرة
الكبرى التي يبدأها الشعب المؤمن لتنتهي فقط في الأبدية.

 

ويسافر
ابراهيم وسلاحه وعد الله، وهذا الوعد هائل: (سأصنع منك أمّة عظيمة وبك تتبارك كل
قبائل الأرض). لكن هذا الوعد لن يبدأ بالتمام إلا بعد عشرين سنة من ذلك التاريخ.

 

هل
أصبح إسرائيل حقاً أمّة عظيمة؟ الجواب كلا إذا كنا نقيس مصيره الأرضي بمقياس الدول
العظيمة، لأنه كان ذلك الشعب المُداس خلال التاريخ إلا في بعض الفترات القصيرة.
والجواب أيضاً كلا إذا كنا نقيس المواهب الطبيعية للشعب العبري بالحضارات القديمة
الأخرى مثل حضارة مصر واليونان. إن عظمة إسرائيل لمن رتبة أخرى لأنه يأخذها من
الله ومنه وحده. نعم إن عظمة هذا الشعب هي في كونه الشعب الذي يكلمه الله والذي
يكلم الله العالم بواسطته. إنه الشاهد للخلاص والمعلن له، ولا يمكن أن يُعطى مجداً
آخر إلى جانب هذا المجد. ومنذ الساعة الأولى يلفته الله إلى أن دعوته تتجاوز بكثير
مصيره هو وأنه سيصبح بركة (لجميع الشعوب).

 

فليست
الذرية حسب اللحم التي وُعد بها ابراهيم سوى الإشارة الحسية إلى الذرية الأوسع
التي يولدها يسوع المسيح الوريث الحقيقي لابراهيم. إنها إسرائيل حسب الإيمان أعني
الكنيسة. وهذه الذرية (التي تفوق كواكب السماء عداً) (تك5: 15) هي بالذات تلك
الكثرة التي لا يمكن عدها حسب كتاب الرؤيا (رؤ 9: 7).

 

ويولد
لابراهيم ابنان الأول حسب الطبيعة ويدعى اسماعيل والثاني حسب الإيمان ويدعى اسحق.
ونلاحظ ملاحظة عابرة أن الابن حسب الطبيعة طُرح رمزياً خارج أرض الميعاد (تك16 و8،21-
21) ولكن الله لم يتركه، وفي اسمه دلالة على ذلك فاسماعيل تعني الله يسمع (تك7: 16-
14 و17: 21- 21 و12: 25- 18).

 

وهكذا
فإن مصير اسماعيل ذاته يتضمن وعداً بأن الوثنيين يدخلون يوماً في عهد النعمة.

 

أما
اسحق فهو ابن المعجزة وتذكرنا ولادته بأن كل شيء في تاريخ الخلاص موهبة، وكل شيء
نعمة، وليس من شيء يأتي من الطبيعة. فالرب (يذكر) سارة (تك2: 21) كما (يذكر) رفقة
وراحيل (تك21: 25- 23 و22: 30) وحنّة (1صموئيل 19: 1) واليصابات (لو 25: 1). فتصبح
البنوة الطبيعية هنا بنوة بالنعمة (7).

 

وانتظر
ابراهيم وسارة عشرين سنة ليتحقق الوعد ثم وُلد الصبي فكان بالنسبة إلى ابراهيم
إشارة حسية إلى أمانة الله. ولكن حدث أن الله بكلمة واحدة استعاد منه كل شيء. وهل
من صفحة في الكتاب أشد تأثيراً في إيجازها من الإصحاح الثاني والعشرين من سفر
التكوين؟ (خذ ابنك وحيدك الذي تحبه..) يقول الذي تحبه! هذا كلام أب لأب، كلام من
يعرف ثمن ما يطلب. ولكن من أين يأتي هذا الأمر المخيف وماذا يعني إلغاء كل الوعود
المعطاة؟ وكيف لا نصرخ مع القديس يوحنا الذهبي الفم: (إن الله يناقض نفسه والإيمان
يناقض الإيمان والأمر يناقض الوعد)؟ ويقول لوثر (إن الله يناقض ذاته مناقضة مفضوحة.
والعقل البشري يتلجلج ولا يمكن إلا للإيمان وحده أن يقوم بالقفزة ويمشي مستنداً
إلى الوعد الإلهي بكل عريه..) (وقد فهم ابراهيم مادة الإيمان التي تعلن عن قيامة
الأموات لأنه عرف بأن من رماده ستولد ذرية). نعم يجب أن يكون الإنسان جباراً في إيمانه
لكي يصمد في معركة كهذه لأن الموضوع فيها ليس موضوع حياة واحدة، مهما كانت عزيزة،
ولكنه موضوع وعود الله كلها ورجاء المؤمن كله، وبعبارة أخرى موضوع خلاص العالم.

 

أما
ابراهيم فيطيع. نعم إنه يطيع دون أن يفهم ولكنه يطيع. يسير ثلاثة أيام والطفل يسير
بجانبه مستغرباً وهكذا سيسير يسوع (ثلاثة أيام) صاعداً إلى أورشليم.

 

ولكن
الله يمسك يد ابراهيم في الدقيقة الحاسمة أما هو فيسير حتى النهاية في آلامه كأب
ويقدّم وحيده من أجل خلاص العالم. وهكذا فإنه يفعل هو بالذات ما طلبه من ابراهيم
امتحاناً لإيمانه.

 

وقال
ابراهيم لابنه اسحق وكأنه يتنبأ: (الله يا ابني يرى حملاً للمحرقة). وهذا الحمل
سيكون الابن الوحيد لا لابراهيم بل لله، وكل المحرقات التي قُدمت حتى مجيئه لن
تكون سوى إشارة وصورة للذبيحة الوحيدة، ولن تكون لها قيمة إلا بمقدار ما تستمد من
الذبيحة الوحيدة.

 

ويستعيد
ابراهيم ابنه اسحق (كمن يقوم من الأموات) (عبر19: 11) فقد أعيد له ابنه مرة ثانية
وأخرجته كلمة الموعد من العدم كما يقول فيشر وحفظت حياته تلك الكلمة وحدها التي
تقيم الأموات، لأن أبا المؤمنين لا يملك ابنه إلا في الإيمان.

 

هل
دخل هكذا أحد قبل ابراهيم المؤمن في آلام قلب الرب؟ كلا. ولكنه لوثوقه بالله عرف
يقين الخلاص وفرحه. ولم يكن ابنه اسحق كما لم تكن أرض كنعان سوى عرابين لهذا
الخلاص. لقد (رأى من بعد وحيّى) مدينة الميعاد ولكنه بقي غريباً وهائماً في الأرض
تماماً كما سيحدث لشعبه وكما ستكون الكنيسة (عبر9: 11 و13- 14 و1بطر 11: 2) (لقد
تهلل ابراهيم أبوكم فرحاً حتى يرى يومي فرأى وفرح) (يو 56: 8).

 

3- العهد

لقد
وعد الله ابراهيم بالبركة. وفي الإصحاح الرابع يعطيه هذه البركة شخص مجهول لا يظهر
على مسرح الكتاب المقدس إلا لكي يختفي بسرعة، أعني به ملكيصادق (كاهن الله العلي).
هذا الكاهن الملك الذي يعني اسمه (ملك البر) ومدينته (السلام) (ساليم وقد يكون
المقصود بها أورشليم) هذا يبارك ابراهيم ويعطيه خبزاً وخمراً إشارة للعهد. ويعلن
المزمور 110 الذي يترنم بمجد المسيح الآتي أن ماسيا سيكون كاهناً على الأبد (ويجب
الملاحظة هنا أن داود وخلفاءه لم يكونوا كهنة على ترتيب ملكيصادق). ولذا يبدو لنا
ملكيصادق في الرسالة إلى العبرانيين كصورة للكاهن الأعظم يسوع المسيح (عبر 13: 6
إلى 3: 7).

 

وفي
الإصحاح الخامس عشر حدَثٌ أشدّ غرابة، فإن الله يلتزم بعهد مع ابراهيم حسب عادة
ذلك الزمان وكانت هذه العادة تقضي بأن يمر المتعهدان بين صفين من الحيوانات
المشطورة. وكان هذا يعني أنهما يقبلان بأن يُشطرا مثل الذبائح إذا هما حنثا
بعهدهما. ويذكر الكتاب أن طيوراً مفترسة – رمزاً لقوى الشر – تحاول أن تنقضّ على
الحيوانات المذبوحة فيطردها ابراهيم، ثم تلفّه الظلمات العميقة ويمتلئ قلقاً، فيكشف
الله له الآلام التي تنتظر ذريته. وبعد ذلك يجوز الله ذاته بين الحيوانات المشطورة
في صورة لهيب نار.

 

هذا
الجزع الذي يعرفه ابراهيم لدى اقترابه من الله، وأمام العهد، هو الذي سيعرفه أيضاً
مختارون من الله أمثال: يعقوب في صراعه مع الله عند دخوله أرض الميعاد (تك24: 32-
32) وموسى ساعة حمله رسالته (خروج 24: 4- 26)، وأخيراً يسوع في الجثمانية. هذا هو
الالتحام الدامي الذي يحمل فيه صفي الله وزر خطيئة البشرية ويرى ذاته مطروحاً
خارجاً، فيجوز في موت لا نجاة منه إلا برحمة الله. هنا يتكشّف الله عن أنه (هو
الذي يميت وهو الذي يحيي) وفي هذه المعركة المغلوب من الله هو في الواقع الغالب
الحقيقي.

 

إن
الله وحده يكوّن الضمانة لذلك العهد، فهو قد التزم فيه بكرامته. وعندما تأتي ذرية
ابراهيم لكي تفسخ العهد يأتي الله ذاته في يسوع المسيح لكي يحل محل المخالفين
ويدفع ثمن قلة أمانتهم. فهذا الذي ينزل على ابراهيم في تلك الليلة القلقة أليس –
مسبقاً – ظل الصليب؟

ويعطي
الله لابراهيم علامة حسية لعهده، ألا وهي الختان. إنها علامة لحمية، يفهمها
إسرائيل المؤمن بأنها ليست بشيء إذا لم تفترض الختانة الحقيقية، ختانة القلب،
وتقود إليها (ارميا 4: 4 ورو 25: 2- 29). وستكون هذه علامة حسية لنعمة غير منظورة:
(إن عهدي سيكون في لحومكم علامة عهد أبدي). ويأتي يسوع المختون في اليوم الثامن
فلا يرفع العهد القديم إلا لكي يُحل محله العهد الجديد المختون بدمه والذي ستكون
علامته (معمودية الموت) (رو 3: 6).

 

وتجدر
الآن ملاحظة نقطة مهمة، وهي أن الغريب عن شعب الله كان ينضم إليه بالختان (تك12: 17-
14). فإسرائيل منذ البدء وقبل أن يحمل هذا الاسم الذي لم يعط له إلا متأخراً (تك28:
32) لم يكن جماعةً يوحدها النسل والدم، بل شركة إيمان قد خُتمت وحدتها بمراسيم
الختان.

 

4- ابراهيم أبو المؤمنين

رأينا
فيما سبق كيف امتحن الله إيمان إبراهيم فأمره أولاً بأن ينطلق (فخرج لا يدري إلى
أين يتوجه) (عبر8: 11)، ثم امتحنه بالانتظار الطويل للوفاء بالوعد، وأخيراً امتحنه
بأن طلب إليه تضحية اسحق. وعلاوة على ذلك فقد وقف إبراهيم متشفعاً أمام الله
طالباً منه العطف على سدوم وعمورة (تك18).

 

ويختصر
الكتاب بكلمة واحدة موقف ابراهيم بكامله: (فآمن أبرام بالرب فحسب له ذلك براً) (تك
6: 15) لهذا أصبح ابراهيم نموذجاً للمؤمنين. ويقول لنا الكتاب أيضاً أنه دعي (خليل
الله) (يع 23: 2). فالإيمان إذن هو التصديق بإله ابراهيم واسحق ويعقوب، وطاعة
وصاياه، واعتبار وعوده أكيدة.

 

حتى
يعقوب، على احتياله وكذبه – ذلك (الابن الضال) في العهد القديم – يصدّق كلام الله
ووعوده وفي ساعات اليأس يتعلق بها ويرفض إفلاتها: (يا إله أبي ابراهيم، وإله أبي
اسحق، الرب الذي قال لي ارجع إلى أرضك وعشيرتك وأنا أحسن إليك) (تك9: 32- 12). هذا
هو سلاح الصلاة الذي لا يُغلب: (أنت قلت). (لا أطلقك أو تباركني). وبعد هذا الصراع
اقتبل يعقوب اسم إسرائيل، ومعناه الذي يتصارع مع الله (لأنك تصارعت مع الله ومع
البشر وغَلبْتَ). هذا التصريح ليس مثله تصريح قيل لإنسان أو لشعب. فكل دعوة
إسرائيل يشملها هذا الاسم. وعندما يسقط إسرائيل لقلة أمانته فالله – الأمين دائماً
لنفسه – يبعث من يجسّد إسرائيل بشخصه فيجابه السماء والجحيم والبشر ويخرج من
المعركة منتصراً، ذاك الذي هو حاضر منذ البدء، غير منظور، يمكّن إيمان ابراهيم في
موريجا، وإيمان يعقوب في مخاضة يبوق، وإيمان يوسف في أسر مصر – يوسف الذي باعه
أخوته فانتقم منهم بإنقاذه إياهم.

 

فهل
نفهم الآن لماذا يلعب آباء العهد القديم دوراً بهذه الأهمية في فكر العهد الجديد؟
إنهم الشهود الأول للإيمان بالإله الحي، وشهادتهم تقوم ضد أولئك الذين يدّعون
الانتماء إليهم ولكنهم أبناؤهم بحسب اللحم لا بحسب الروح: (أقول لكم إن كثيرين
يأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع ابراهيم واسحق ويعقوب في ملكوت السموات،
وأما بنو الملكوت فيلقَون في الظلمة البرانية) (متى 11: 8، 12). ويقصد (بأبناء
الملكوت) المختونين في العهد القديم والمعمدين في العهد الجديد الذين ليسوا
إسرائيليين إلا حسب اللحم أو مسيحيين إلا بالاسم، أولئك الذين ليسوا أبناء أصليين
لابراهيم حسب الإيمان. فلكي يدخل الإنسان في الملكوت يجب أن يكون (ابناً لابراهيم).
وأعظم وعد وُعدنا به هو أن نلتقي على المائدة معه في ملكوت السموات.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى