علم الكتاب المقدس

31- اللاهوت الحديث والنقد الكتابي



31- اللاهوت الحديث والنقد الكتابي

31- اللاهوت الحديث والنقد الكتابي

بقلم
سي. أس. لويس

إن
تقويض الفكر المسيحي التقليدي القديم كان بالأساس عمل علماء اللاهوت النقديين
الذين انهمكوا في نقد العهد الجديد. وهؤلاء الخبراء في هذا الفرع من المعرفة
يطالبونا بأن نتخلى عن قدر ضخم من المعتقدات التي اعتنقتها الكنيسة الأولى والآباء
والعصور الوسطى والمصلحون حتى القرن التاسع عشر. وأريد أن أشرح ما الذي يجعلني
متشككاً بشأن تصوراتهم. إنه شك ناجم عن الجهل كما سوف نرى بكل سهولة. ولكن الشك هو
أبو الجهل. من الصعب أن تثابر على دراسة متعمقة عندما لا يمكنك أن تمتلك ثقة
بديهية في معلمك.

 

أولاً:
أيا كان هؤلاء الرجال، ربما يكونوا نقَّاداً للكتاب المقدس، إلا أنني أرتاب فيهم
كنقَّاد. فهم من منظوري يفتقدون إلى الحكم الأدبي، إنهم غير مدركين للقيمة
الحقيقية للنصوص التي يقرأونها. وقد أبدو غريباً في توجيه هذه التهمة ضد رجال قضوا
حياتهم كلها في دراسة هذه الأسفار. ولكن ذلك قد يكون هو نفسه المشكلة. فإن الرجل
الذي قضى شبابه ورجولته في الدراسة الدقيقة لنصوص العهد الجديد ولدراسات الآخرين
لهذه الأسفار، ولكن خبرته الأدبية بهذه النصوص فقيرة جداً بحيث أنها لا تعطي أي
قيمة معيارية للمقارنة مع أنه ذو خبرة واسعة وعميقة وغزيرة بالأدب بوجه عام. وأنا
أعتقد أنه من المحتمل جداً أن تضيع منه الأشياء الواضحة عن الأسفار. فإذا قال لي
إن شيئاً ما في الإنجيل أسطورة أو خيال فإنني أريد أن أسأله كم عدد الأساطير
والقصص الخيالية قد اطَّلع عليها، وإلي أي مدى استطاع تدريب حاسة الذوق لديه
لاستبيانها واكتشافها من خلال صفاتها المميزة، ولا يعنيني كثيراً كم عدد السنين
التي قضاها في دراسة هذا الإنجيل.

 

فيما
يُعد بالفعل تفسيراً قديماً، قرأت أن الإنجيل الرابع تعتبره إحدى المدارس «خيالاً
روحياً» و«شعراً وليس تاريخاً». ويمكن الحكم عليه بنفس طريقة تقييمنا لمثل ناثان
وسفر يونان و«الجنة المفقودة» للشاعر البريطاني الشهير ملتون أو بدقة أكثر «سياحة
المسيحي». ليوحنا بنيان وبعد أن قال الرجل هذا، لماذا يحتاج الإنسان أن يلجأ لأي
كتاب آخر في العالم؟ لاحظ أنه يعتبر «سياحة المسيحي» قصة معترف بأنها حلم ويتباهى
بطبيعتها المجازية من خلال كل كلمة مناسبة يستخدمها، باعتبارها أفضل وأقرب مثل.
ولاحظ أن كل الملحمة الخاصة بملتون لا تهدف لشيء. ولكن حتى لو حذفنا كل السخافات
الكثيرة ولازمنا أو ركَّزنا على يونان، نجد قصة ليست فيها سوى مصادر تاريخية قليلة
بل وزائفة تماماً كسفر أيوب، الذي يتسم بالأشياء الغريبة والأجنبية في العرض برغم
من تهذيبه بإضفاء الأسلوب اليهودي النموذجي عليه.

 

وبعدها
نتحول إلى يوحنا. فلنقرأ الحوارات: مثل ذلك الذي جرى مع المرأة السامرية عند البئر،
أو الذي أعقب شفاء الرجل المولود أعمى. انظر إلى تصويراته ليسوع (لو أتيح لي أن
أستخدم هذه الكلمة) يرسم بعبث على الرمل. لقد قرأت أشعاراً وقصصاً رومانسية، وأدب
رؤوي وأساطير وخرافات طوال حياتي كلها. وأعرف طبيعتها وأعرف أنها جميعاً لا تشبه
الموجود في هذه القصة. فيمكن النظر لهذا النصّ برؤيتين فقط. إما أن يكون ذلك
تقريراً قريباً جداً من الحقائق رغم أنه يتضمن بعض الأخطاء. أو الاحتمال الثاني أن
ثمة كاتب غير معروف في القرن الثاني، ليس له أسلاف أو أتباع معروفين، ولكنه فجأة
سبق غيره في الوصول لتكنيك السرد الروائي الواقعي الحديث. فلو أن ذلك غير حقيقي، فلابد
أن تكون في هذا المنطلق رواية من هذا النوع. والقاريء الذي لا يرى هذا هو ببساطة
لم يتعلم أن يقرأ.

 

وهنا،
من كتاب بولتمان «لاهوت العهد الجديد» نجد ملاحظة أخرى للأسلوب غير المتناسق في
التنبؤ بالمجيء الثاني (مز 8: 38)، بعد أن تنبأ بآلامه (مز 8: 31). «ترى.. ماذا
يمكن أن يكون قصده؟ عدم التناسق؟». يعتقد بولتمان أن نبوات المجيء الثاني هي أقدم
من نبوات آلام المسيح. وهو لذلك يريد أن يعتقد – وهو بلاشك يعتقد تماماً – أنهما
عندما جاءتا في نفس الفقرة يمكن إدراك بعض التعارض أو عدم التناسق بينهما.

 

ولكنه
بلاشك دس هذا الأمر الزائف على النص دون أن يدرك ذلك. فلقد أعترف بطرس ليسوع أنه
الشخص المنتظر. هذا الوميض من المجد نادراً ما كان يعلو قبل أن يبدأ النبوة
المظلمة – أن ابن الإنسان لابد أن يتألم ويموت. وبعدها يتكرر هذا التناقض. إذ
ارتفع بطرس للحظات بسبب اعترافه بالمسيح، ولكنه سرعان ما يتخذ خطوته الخاطئة
وتبعها بالرد الساحق من قبل يسوع. عندها عبر هذا الدمار اللحظي والذي أصبح فيه
بطرس، كما هو في الغالب، صوت المعلم، تحوَّل إلى الجموع، يعمم المغزى ويقول بأن كل
أتباعه يجب أن يحملوا الصليب. هذا التجنب للألم، هذه الحماية للذات، ليست هي حقيقة
الحياة. بعدها وبأكثر دقة مازالت الدعوة للاستشهاد، «يجب أن تتبع سيدك». فإذا
أنكرت المسيح هنا والآن، فهو سينكرك في الحياة الأتية، ومنطقياً وعاطفياً وخيالياً،
العواقب واضحة. لكن بولتمان وحده هو الذي يفكر في أشياء أخرى.

 

وفي
النهاية نجد بولتمان نفسه يقول: إن شخصية يسوع ليست لها أي أهمية في البشارة (
Kerygma) الخاصة ببولس ويوحنا.. بل بالفعل نجد أن تقليد الكنيسة الأولى لم
يقم حتي بدون وعي بحفظ تصوير لشخصيته. وكل محاولة لإعادة بناء صورة لشخصيته تظل
مجرد لعب بالتخيلات الذاتية.

 

وهكذا
لا توجد أية معالم لشخصية ربنا مقدمة في العهد الجديد. ولكن أي عملية غريبة ذهب
هذا العالم الألماني في داخلها سعياً لجعل نفسه يتعامى عن كل ما توقَّع الجميع أن
يراه؟ وما هو الدليل الذي لدينا أنه سيدرك معالم الشخصية حتى لو كانت موجودة هناك؟

 

إنه
أسلوب المعارضة للعقائد المترسخ عند بولتمان نفسه. فلو أن أي شيء مهما كان مقبولاً
وشائعاً بين المؤمنين وحتى بين الكثير من غير المؤمنين، فهو بلاشك الشعور بأنهم
تقابلوا في الأناجيل مع شخصية يسوع. هناك شخصيات نعرف أنها تاريخية ولكننا لا نشعر
أننا ندرك أي شيء عن شخصيتهم، ولكنها معرفة الإطِّلاع، مثل شخصية الإسكندر أو أحمس.
وهناك آخرون الذين ليس لهم صلة بالواقع التاريخي، ولكننا نعرف عنهم ما نعرفه عن
الأشخاص الحقيقيين مثل: شارلوك هولمز أو أي شخصية من القصص الأدبية.

 

ولكن
ثمة ثلاثة شخصيات فقط الذين يعتبرون شخصيات تاريخية فعلاً ولكنهم أيضاً نعرف عنهم
الكثير. وبالطبع جميعنا نعرف من هم: سقراط الذي تحدث عنه أفلاطون ويسوع الذي جاء
في الأناجيل وجوناثان الذي كتب عنه بوسويل. إن معرفتنا الشخصية بهم تظهر في عشرات
الطرق. عندما نقرأ في الأناجيل المزيفة، نجد أنفسنا باستمرار نقول على هذا القول
أو ذاك: «لا، إنه قول جميل، ولكنه ليس من أقوال يسوع، فليست هذه هي طريقته في
الحديث». تماماً كما نفعل مع أي أقوال زائفة لسقراط التي لم يذكرها أفلاطون.

 

إن
سمة الشخصية قوية وواضحة جداً حتى عندما – يقول أشياء – التي بحسب أي افتراض آخر
بدلاً من التجسد الإلهي في كامل معناها – سوف يكون غروراً وكبرياء على نحو مروِّع،
إلا أننا – وكذلك كثير من غير المؤمنين أيضاً – نقبله نظراً لقيمته عندما يقول: «أنا
وديع ومتواضع القلب». وحتى الفقرات في العهد الجديد التي في شكلها ومغزاها توجِّه
أغلب اهتمامها بالأمور الإلهية، ولا تهتم بالطبيعة الإنسانية، تأتي بنا وجهاً لوجه
مع شخصية يسوع.

 

«ورأينا
مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً.. الذي شاهدناه ولمسته أيدينا».
ما المكسب من محاولة التمُّلص من أو تبديد هذه الشهادة المباشرة القاطعة للعلاقة
الشخصية من خلال الكلام عن «الأهمية التي وجدتها الكنيسة في أن تنسب ذلك إلى
السيد»؟.

 

هذا
إذن أول اعتراضاتي. فهؤلاء الرجال يطلبون مني أن أصدق أنهم يستطيعون قراءة ما بين
السطور للنصوص القديمة، بينما الدليل يؤكد عجزهم الواضح عن قراءة السطور نفسها.
وهم يزعمون أنهم يستطيعون رؤية حبة القمح بينما لا يستطيعون رؤية فيل على بعد خمسة
أمتار منهم.

 

ونأتي
إلى الاعتراض الثاني. كل اللاهوت الخاص بالأسلوب الليبرالي يتضمن في نقطة ما الزعم
بأن السلوك والهدف والتعليم الحقيقي للمسيح أساء تلاميذه فهمه وكذلك أساءوا تقديمه،
وأنه تمَّ استرجاعه وإحياؤه مرة أخرى بواسطة العلماء المعاصرين. والآن وقبل فترة
طويلة من تحوُّل اهتمامي للاهوت، قابلت هذا النوع من النظريات في أماكن عديدة أخرى،
فلقد انقدت إلى الاعتقاد بأن المعنى الحقيقي لأفلاطون أساء أرسطو فهمه، وقدمت له
الأفلاطونية الجديدة صورة زائفة، ولكن المحدثين وحدهم استطاعوا استعادة المعنى
الحقيقي. وعندما استعادوا المعنى، وجدناه انقلب تماماً – لحسن الحظ – ليضفي على
أفلاطون شخصية رجل إنجليزي يتبع فكر الفيلسوف الحديث هيجل، تماماً مثل ت.ه.جرين.

 

ولقد
قابلت ذلك في إطار دراسات حياتي المهنية، كل أسبوع طالب جامعي، وكل فصل مدرس
أمريكي كليل، يحاول أن يقنعني أنه هو من اكتشف لأول مرة ماذا تعني فعلاً بعض
مسرحيات شكسبير. ولكن في هذه الحالة أكون أنا الشخص المسيطر. إن الثورة في الفكر
والمشاعر التي حدثت في حياتي الخاصة كانت عظيمة جداً لدرجة أنني أنتمي ذهنياً إلى
عالم شكسبير أكثر بكثير من هذه التفسيرات الحديثة. إنني أرى – بل وأشعر بها في
عظامي – وأعرف فيما وراء كل المجادلات أن معظم تفسيراتهم ليست سوى أفكار مستحيلة،
فهم يتورطون في أسلوب للنظر إلى الأشياء التي لم تكن معروفة في عام 1914، أقل
بكثير في الحقبة اليعقوبية. وهذا يؤكد يومياً شكوكي في نفس المنحنى بالنسبة
لأفلاطون أو العهد الجديد.

 

إن
فكرة ضرورة أن يكون الكاتب مبهماً أمام من عاشوا معه في نفس الثقافة، وتحدثوا بنفس
اللغة وشاركوه في نفس الصور البلاغية المعتادة والافتراضات اللاواعية، إلا أنه
يكون شفافاً وواضحاً أمام الذين ليس لديهم أي من هذه الامتيازات، تلك الفكرة في
رأيي منافية للعقل، ولا يوجد أي احتمال لها حيث لا يمكن لأي حجة أو دليل أن يوازن
ذلك.

 

ثالثا:
وجدت في هؤلاء اللاهوتيين استخداماً متكرراً للمبدأ القائل بعدم حدوث المعجزات.
ومن ثم، أي عبارة وضعت على لسان ربنا من النصوص القديمة والتي هي لو فرض أن ربنا
قد نطق بها سوف تشكل نبوة للمستقبل، أخذوها واعتبروها أُدخلت بعد حدوث الحدث الذي
يبدو وكأنه كان متوقعاً. وهذا شيء معقول جداً لو أننا بدأنا بمعرفة أن التوقع
الموحي به من الله لا يمكن أبداً أن يحدث. وبالمثل بوجه عام، رفض كل الفقرات التي
تسرد قصة المعجزات – باعتبارها أجزاء غير أصيلة تاريخياً – هو أمر معقول لو أننا
بدأنا بمعرفة أن المعجزات بوجه عام لا تحدث أبداً. والآن لا أريد هنا أن أناقش
إمكانية حدوث المعجزات، إنما أبتغي فقط أن أشير إلى أن هذه الأفكار لا تزيد عن كونها
مسألة فلسفية محضة.

 

العلماء
يتحدثون عنها وسلطتهم لا تزيد عن أي شخص آخر. إن القاعدة «ما هو معجزي ليس أصيلاً
تاريخياً» هي قاعدة جلبوها لدراستهم للنصوص، ولم يتعلموها من هذه النصوص. لو أن
شخصاً يتحدث عن السلطة، فإن السلطة الموحَّدة لكل النقَّاد الكتابيين في العالم
تساوي هنا لا شيء. فهم يتحدثون ببساطة كأشخاص متأثرين بوضوح بروح العصر الذي نشأوا
فيه.

 

ولكن
اعتراضي الرابع والذي هو أكثرهم قوة وطولاً لم أنطق به بعد.

فكل
هذه الأنواع من النقد تحاول إعادة بناء تكوين النصوص التي تقوم بدراستها، ما هي
الوثائق الغائبة التي استعان بها كل كاتب للأناجيل، ومتى وأين كتب، وما هو الهدف
من وراء الكتابة، وما هي الظروف التي أثَّرت فيه – أي كل الظروف المعيشية التي
أحاطت بالنصّ. وهذا يحدث من خلال تبحُّر واسع بالعلم وإبداع هائل. ومن الوهلة
الأولى يمكن أن تراه مقنعاً جداً. وأنا أعتقد أنني ينبغي أن أقتنع به، لولا أني
أحتفظ بترياقي الذي يحميني منها. ولعلك تعذرني لو أنني تحدثت الآن لفترة عن نفسي،
وقيمة ما أقوله تعتمد على كونها دليلاً بالدرجة الأولى.

 

أما
الذي أعانني في مواجهة كل هذه الانقلابات وإعادات البناء فهي حقيقة أنني رأيتها
جميعاً من الوجهة الأخرى. ورأيت النقَّاد الصحفيين يعيدون هيكلة وبناء تكوين كتبي
بنفس هذه الطريقة تماماً.

 

وإلى
أن تتجه إلى مراجعة نفسك، لن تصدق أبداً كيف يتعامل النقَّاد في الصحف بأسلوب جاد
وحازم للغاية مع كل ملحوظة صغيرة مألوفة: بالتقدير والمدح أو بالانتقاد للكتاب
المكتوب فعلاً، ومعظمها يسير مع تواريخ تخيلية للعملية التي كُتِبَ بواسطتها
الكتاب، والألفاظ التي يستخدمها النقَّاد في المدح أو الانتقاد واللوم، غالباً ما
تتضمن مثل هذا التاريخ. فهم يمدحون فقرة بأنها «عفوية أو تلقائية» وينتقدون فقرة
أخرى لأنها «متكلفة في إنجازها». وهذا، لأنهم يعتقدون أنهم يعرفون أنك كتبت الأولى
لتتحدث عن الواقع الحالي ولكن الفكرة الثانية لتتحدث عن عالم خيالي مختلق تماماً.

 

قيمة
مثل هذه التعديلات وإعادة البناء عرفتها وتعلمتها مبكراً جداً في خلال حياتي
المهنية. ولقد نشرت كتاباً يحتوي على عدة مقالات. والمقال الذي وضعت فيه عصارة
قلبي، هو المقال الذي أوليته اهتماماً فعلاً بحماسة ملتهبة، كان عن وليم موريس.
وفي مرحلة (النقد) الأولى تقريباً قالوا لي إن هذا المقال بمنتهى الوضوح هو المقال
الوحيد في الكتاب الذي لم أشعر بأي اهتمام نحوه، والآن دعنا لا نخطيء. ربما كان
الناقد على صواب في اعتقاده أن هذه أسوأ مقال في الكتاب. ولكن الأقل، أنه كان
مخطئاً تماماً في تاريخه الوهمي للأسباب التي تسببت في إنتاج هذا المقال بهذا
الشكل السخيف.

 

حسناً،
هذا جعلني أنتبه لكل كلمة. ومن وقتها انتبهت إلى بعض التصورات التاريخية التحليلية
سواء لكتبي الخاصة أو لكتب لأصدقاء أعرف تاريخهم الحقيقي. إن النقَّاد سواء من
الودودين أو العدائيين سوف يحطمونك بمثل هذه التصورات التاريخية بثقة عظيمة، وسوف
يخبرونك كيف وجَّهت الأحداث العامة ذهن الكاتب إلى هذا أو ذاك، وكيف أثَّر
الكتَّاب والمؤلفون الآخرون في الكاتب، وماذا كان غرضه وهدفه الإجمالي، وما نوعية
الجمهور الذي يستهدفهم مبدئياً، لماذا – ومتى – عمل كل شيء.

 

والآن
عليّ أولاً أن أسجل انطباعي، ثم بعد ذلك أوضِّح بمعزل عن انطباعي ما يمكنني قوله
بكل يقين. أما عن انطباعي فهو أنه خلال كل خبرتي، ولا واحدة من كل هذه التخمينات
حالفها الصواب حتي في نقطة واحدة. وهذا يعني أن هذا المنهج يوضِّح أن نتيجته فاشلة
بنسبة 100%. وربما نتوقع أنه بمجرد فرصة يصيبونها بنفس مقدار ما يخطئون، ولكن
انطباعي يقول إنهم لا يفلحون حتى في ذلك، فلا يمكنني أن أتذكر شيئاً واحداً أصابوا
فيه. ولكن حيث أنني لم أحرص على وضع تقرير متأنٍ وحريص، فربما يكون انطباعي المجرد
مخطئاً. ولكن ما أعتقد أنني يمكنني قوله بيقين إنهم عادة ما يكونوا على خطأ.

 

الآن،
هذا بالتأكيد يتطلب وقفة. إن إعادة بناء تاريخ النصّ – عندما يكون النصّ موغلاً في
القِدَم – يبدو مقنعاً وثابتاً تماماً. ولكن الشخص بعد كل شيء يبحر بواسطة حسابات
ميتة، فلا يمكنه التحقق من النتائج بالحقائق. وسعياً لتقرير مدى أصالة ودقة هذا
المنهج، ما الذي يمكنك أن تطلبه أكثر من أن تظهر في موقف يكون فيه نفس المنهج الذي
يتم العمل به، ويكون لدينا حقائق يمكن التحقق منها بواسطة هذا المنهج؟. حسناً،
وهذا هو ما فعلته بالضبط، ووجدت أنه عندما كان هذا التحقق والفحص متاحاً، فإن
النتائج تكون دائماً أو غالباً خاطئة. إن النتائج المؤكدة للبحوث الحديثة مثل
الطريقة التي كُتب بها كتاباً قديماً مؤكدة، وربما نستنتج أنه فقط لأن الأشخاص
الذين عرفوا الحقائق قد ماتوا ولا يمكنهم أن يعلنوا هذه الحقائق.

 

المقالات
الضخمة في مجال دراستي والتي تعيد بناء تاريخ بعض الشخصيات الأدبية تكون غالباً
ليست سوى وهم.

 

فهل
أنا إذن مغامر لأن أقارن كل من يكتب نقداً في نشرة أسبوعية حديثة بهؤلاء العلماء
العظماء الذين كرَّسوا حياتهم بأثرها للدراسة المتعمقة للعهد الجديد؟ ولو أن الأول
يكون دائماً خاطئاً، فهل يتبع ذلك أن الأخيرين ليسوا أفضل منه بكثير؟

 

ثمة
إجابتان لهذا السؤال. أولاً: بينما أنا أكنُّ احتراماً لتعاليم النقَّاد الكتابيين
العظام، إلا أنني مازلت غير مقتنع أن حكمهم يجب هو الآخر أن يلقي نفس الاحترام.
ولكن ثانياً: مع اعتبار الميزات التي يحققونها نقاد الأدب الحديث بمجرد بداية
النقد. فهم أعادوا هيكلة وبناء تاريخ كتاب كتبه شخص ما كانت لغته الأم مثل لغتهم
هم أيضاً. معاصر ومتعلم مثلهم، يعيش نفس الجو الذهني والروحي. لقد كان لديهم كل ما
يساعدهم.

 

بينما
نجد أن التفوق في الحكم والاجتهاد الذي أنت مزمع أن تنسبه إلى نقَّاد الكتاب
المقدس سوف يكون شيئاً خارقاً للطبيعة البشرية تقريباً لو أنه استطاع أن يتغلب على
الحقيقة أنهم في كل مكان يواجهون عادات ولغات، وسمات عرقية وخلفيات دينية وأعرافاً
من التركيب وافتراضات أساسية، والتي لا توجد أي بحوث سوف تمكِّن أي شخص يعيش الآن
من أن يعرفها بدقة ويقين وبألفة وبالغريزة، كما يعرف الناقد الصحفي أعمالي الحديثة.
ولنفس السبب تماماً، تذكَّر أن نقَّاد الكتاب المقدس، أيا كان أسلوب إعادة البناء
الذي ابتكروه، لا يمكن أن يثبت خطأه تماماً وبشكل واضح. فالقديس مرقس مات، وأيضاً
القديس بطرس، ولذلك ستظل هناك أمور ملحة تخضع للنقاش ولن نستطيع أن نحسمها حسماً
نهائياً.

 

ربما
تقول إن مثل هؤلاء النقَّاد الصحفيين أغبياء طالما أنهم يحسبون كيف أن مصدر الكتاب
لم يكتبوه بأنفسهم قد كتبه شخص آخر، وهم يزعمون أنك كتبت قصة كما أنهم سيحاولون أن
يكتبوا قصة. والحقيقة أنهم سيجتهدون جداً في تفسير وشرح لماذا لم يتمكنوا من إنتاج
أي قصة، ولكن هل نقَّاد الكتاب المقدس أفضل كثيراً من هؤلاء؟ فالدكتور بولتمان لم
يسبق له أن كتب إنجيلاً. ترى.. هل الخبرة التي حصل عليها مما تعلمه ومن تخصصه من
حياته الجديرة بالتقدير بلاشك، قد منحته أي قدرة على اختراق عقول هؤلاء الرجال
الذين رحلوا منذ زمان بعيد، والذين حصلوا على ما يجب اعتباره خبرة دينية مركزية
دارت حولها كل الخبرات الدينية للبشر جميعاً؟ لذا فليس من الفجاجة أن نقول – وهو
بنفسه سوف يعترف- إنه بكل الطرق بعيد تماماً عن كتَّاب الأناجيل ويفصله عنهم حواجز
مهولة – منها الروحية ومنها الفكرية – ربما تكون أكبر بكثير من الحواجز التي تفصل
نقَّاد الأدب الحديث عني وعن أعمالي.

 

سي.إس.
لويس كان عملاقاً بين نقَّاد الأدب. وقد اعتنق الإيمان المسيحي بعد فترة طويلة من
نضجه، وقام بالتدريس في جامعات اكسفورد وكمبريدچ، ونال شهرة في مجال كتابة قصص
الخيال العلمي وقصص الأطفال، وكذلك الأعمال البحثية.

 

هذا
المقال نقلاً عن مختارات منشورة من محاضرات ومقالات لويس، بعنوان «انعكاسات
مسيحية»، التي قام على تحريرها والتر هوبر. وهي مستخدمة بالتصريح من الناشر وليم ب.
اردمانز.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى