علم الكتاب المقدس

ما بين العهدين



ما بين العهدين

ما
بين العهدين

أعطى
العهد الجديد لموضوعات العهد القديم الرئيسة مفاهيم جديدة على ضوء التعاليم التي
أتى بها السيد المسيح، فكان الكلام في اسفار العهد الجديد عن الخليقة الجديدة
والملكوت والكنيسة شعب الله الجديد وغيرها من التعابير ذا مدلول مختلف عن مضامينه
في العهد القديم. وما قول يسوع “ما جئت لأُبطل، بل لأُكمل” (متى 5: 17)
الا تأكيد على انه يريد إعطاء معنى جديد لمفاهيم العهد القديم، لا إلغاءها. سوف
نورد بإيجاز بعض الأمثلة عن اهم هذه الموضوعات.

 

يتحدث
العهد الجديد عن الخليقة الجديدة التي دشنها يسوع بقيامته من بين الاموات، هذه
الخليقة الجديدة لا يقوى عليها الموت والخطيئة، بل تشارك المسيح في مجده. يقول
الرسول في رسالته الثانية الى اهل كورنثوس: “فاذا كان أحد في المسيح، فانه
خلقٌ جديد قد زالت الأشياء القديمة وها قد جاءت أشياء جديدة” (5: 17). تأتي
فاتحة إنجيل يوحنا “في البدء كان الكلمة” مثابة قراءة جديدة لفاتحة كتاب
التكوين “في البدء خلق الله السموات والأرض”، كلمة الله التي بها خلق
الله العالم ليس سوى ابن الله الذي صار إنسانا ليجدِّد الإنسان بفدائه.

مقالات ذات صلة

 

يعطي
العهد الجديد مفهوما جديدا لتعبير “شعب الله” بحيث يمد هذا المفهوم
ليطال كل الشعوب “فليس هناك يهودي ولا يوناني، وليس هناك عبد او حر، وليس
هناك ذكر وانثى، لأنكم جميعا واحد في المسيح يسوع. فإن كنتم للمسيح فأنتم اذاً نسل
ابراهيم وانتم الورثة وفقا للموعد” (غلاطية 3: 28-29).هنا يبرز الرسول بولس
مفسرا العهد القديم تفسيرا روحيا، بمعنى انه يجعل نسل ابراهيم يشمل كل الإنسانية
بحسب الإيمان بيسوع المسيح، ويجعل المجال متاحا امام الجميع لنوال الموعد. ولهذا
يقول الرسول نفسه في مكان آخر: “ويبقى الوعد جاريا على نسل ابراهيم كله، لا
على من ينتمون الى الشريعة فحسب، بل على من ينتمون الى إيمان ابراهيم ايضا”
(رومية 4: 16).

 

جاء
الإعلان عن الفصح الجديد الذي تنبأ به موسى وايليا على جبل التجلي، وهما من كبار
انبياء العهد القديم، ليؤكد انتظار الكل الخلاصَ الحقيقي الذي سوف يتم بيسوع
المسيح. يقول الإنجيلي لوقا في سرده لحدث التجلّي: “واذا رجلان يكلّمانه،
وهما موسى وايليا، قد تراءيا في المجد، واخذا يتكلمان على رحيله الذي سيتم في
اورشليم” (9: 30-31). ولفظ “رحيله” الوارد في الآية يعني في ترجمته
الحرفية “خروجه”0 يسوع يحقق في خروجه الى اورشليم، مركزِ تاريخ الخلاص،
الخروجَ الجديد وتاليا الفصحَ الجديد. ينتج عن هذا الفصح الجديد أن كل من تبع يسوع
يَعْبُر مثله من الموت الى الحياة: “الحق الحق اقول لكم من سمع كلامي وآمن
بالذي أرسلني فله الحياة الأبدية ولا يمثل امام القضاء بل انتقل من الموت الى
الحياة” (يوحنا 5: 24).

 

حقّق
يسوع المسيح العهد الجديد الذي وعد الله به في العهد القديم حين قال على لسان
ارميا النبي: “ها إنها تأتي ايام، يقول الرب، أقطع فيها مع بيت اسرائيل وبيت
يهوذا عهدا جديدا(..) اجعل شريعتي في بواطنهم وأكتبها على قلوبهم، وأكون لهم إلها
وهم يكونون لي شعبا” (31: 31-33). هذا العهد الجديد قد ختمه يسوع بدمه على
الصليب فداءً لخطايا العالمين، وبدأ به زمنا جديدا وملكوتا ابديا. وفي هذا يقول
كاتب الرسالة الى العبرانيين: “المسيح هو وسيطٌ لعهدٍ جديد، لوصية جديدة، حتى
اذا مات فداءً للمعاصي المرتكبة في العهد الاول، نال المدعوون الميراث الأبدي
الموعود” (9: 15).

 

يضيق
المجال لذكر كل الموضوعات المتعلقة بالعهدين. ولكن نكتفي بالقول إن الشريعة
الموسوية قد وجدت كمالها في موعظة يسوع على الجبل (متى، الفصول 5و6و7)، وفي وصية
يسوع الوحيدة الى تلاميذه: “وصيتي هي: أحبوا بعضكم بعضا كما أحببتكم”
(يوحنا 15: 12). ولا ريب أن عمل الله الخلاصي يستمر في الأسرار التي تقيمها
الكنيسة، ولا سيما في سرَّي الشكر (القداس الإلهي) والمعمودية.

 

يُقرأ
العهد القديم كله على ضوء الإعلان الذي قام به يسوع. وحده المسيحي بهدْي الروح
القدس يستطيع فهم معنى العهد القديم، فالقديس بولس يقول في اليهود: “أُعميت
بصائرهم، فإن ذلك القناع نفسه يبقى الى اليوم غير مكشوف عندما يُقرأ العهد القديم،
ولا يُزال الا في المسيح.اجل، الى اليوم كلما قُرئ موسى فهناك على قلوبهم قناع،
ولكن لا يُرفع هذا القناع الا بالاهتداء الى الرب” (1 كورنثوس 3: 14-16).
معرفة العهد الجديد تكشف لنا ان العهد القديم وقراءته على ضوء يسوع المسيح يشكلان
ركنا اساسيا من أركان الإيمان المسيحي.

 

الهجوم
على العهد القديم

شهدنا،
في الآونة الأخيرة، تجدّد الحملة على العهد القديم. فقد أثار تلحين بعض مقاطع نشيد
الأناشيد غضب بعض من اعتبر هذا الحادث دعايةً للصهيونيّة وخدمةً لها. ومن باب
المفارقة، أنّ حتّى بعض الذين انبروا للدفاع عن تحويل النصّ العربيّ لنشيد
الأناشيد عملاً موسيقيًّا، ما تردّدوا في إطلاق آراء مستهجنة مثل قولهم إنّهم لا
يرون في هذا الأثر الأدبيّ جزءًا فعليًّا من الكتاب المقدّس. وذلك بخلاف ما هو
شائع لدى اليهود والمسيحيّين منذ أواخر القرن الأوّل، ومن دون إفصاحهم عن المعايير
التي ينبغي توافرها في كتاب ليصبح “مقدّسًا” في رأيهم.

 

 وسمعنا
قبل شهور قليلة في برنامج متلفز صوت عملاق من موسيقيّينا وشعرائنا يقول تحفّظه
إزاء قداسة العهد العتيق، لكونه يضمّ “أساطير” شتّى. الغريب في هذا كلّه
أنّ الهجمة على العهد القديم لم تصدر من إخوان جهالة يصحّ فيهم قول المتنبّي
إنّّهم “في الجهالة ينعمون”، بل الأصوات التي انتقدت هذا الجزء من
الكتاب المقدّس تنتمي إلى ما يمكن تسميته “الصفوة المثقّفة” في لبنان
والشرق العربيّ. هذه ظاهرة تبيّن مدى الشرخ الحاصل بين مثقّفي هذه الديار، من جهة،
والفكر الدينيّ، من جهة أخرى. وهي إن دلّت على فشل هذا الفكر في اختراق الدائرة
التفكيريّة لدى هذه الصفوة، فهي لا تقلّ دلالة على أنّ بعض هؤلاء ما زالوا
“يتغرغرون” بنقد سالفيّ للكتاب الكريم راحت حركيّة الإنسانيّات الحديثة
تتجاوزه منذ بضعة عقود، فضلاً عن عدم اطّلاعهم على عمق الإشكاليّة التفسيريّة
المرتبطة بالعهد القديم في اللاهوت المسيحيّ وسعتها، واكتفائهم بترديد الكليشيهات
المسطّحة إزاء الإرث الروحيّ والإنسانيّ العظيم الذي يضمّه هذا الكتاب بين دفّتيه.

 

الحملة
على العهد القديم بوصفه جزءًا من كتاب المسيحيّين المقدّس تعود إلى القرن الثاني
عندما اعتبر ماركيون، وكان شخصيّة مسيحيّة مرموقة في رومية العاصمة، أنّ إله العهد
العتيق لا يمكن أن يكون أبا يسوع المسيح، وذلك لما يُروى عنه أنّه إله مضطهد سفّاح،
يزهق أرواح الأطفال ويسلّم مدنًا كاملة إلى الخراب والسبي، فيما إنجيل يسوع يتّسم
بالرفق واللطف ويدعو إلى محبّة الأعداء. لا داعي هنا لدخول تفاصيل هذه القراءة
ومحاولة إظهار تقاطعها مع النظام العرفانيّ
gnosticisme الذي كان يمجّ المادّة بوصفها شرّيرة، موغلاً في التمييز بين إله
العهد القديم الذي أنشأها وإله العهد الجديد الذي يريد أن يعتق النفوس المسجونة
فيها. الأهمّ أنّ اللاهوت المسيحيّ في ردّه على ماركيون والعرفانيّة شدّد، أوّلاً
على ترابط العهدين، العتيق والجديد، في وحدة لا تنفصم عراها، وثانيًا على أنّ
معيار قراءة العهد القديم وتفسيره هو يسوع المسيح، الربّ الحاضر في وسط جماعته، إذ
بفضله هو وحده تصبح كتب العهد العتيق اليهوديّة المنشأ ذات معنى بالنسبة إلى
المسيحيّين الآتين من الوثنيّة. إنّ الاعتراف بيسوع الناصريّ مسيحًا يسمح للمؤمنين
من الأمم بالانخراط في تاريخ وعود اللَّه للشعب اليهوديّ، والتي يشكّل العهد
القديم وثيقتها الأساسيّة، بحيث يصبح هذا الكتاب “كتابهم” إذ يروي
قصّتهم هم مع اللَّه. هكذا يسمح الرسول بولس لنفسه بالتوجّه إلى أعضاء الكنيسة،
التي أسّسها في كورنثوس، والآتين، في غالبيّتهم الساحقة، من الوثنيّة بالكلمات
الآتية: “لست أريد أيّها الأخوة أن تجهلوا أنّ آباءنا جميعهم كانوا تحت
السحابة، وجميعهم اجتازوا في البحر، وجميعهم اعتمدوا لموسى في السحابة وفي البحر،
وجميعهم أكلوا طعامًا واحدًا روحيًّا، وجميعهم شربوا شرابًا واحدًا روحيًّا،
لأنّهم كانوا يشربون من صخرة روحيّة تابعتهم، والصخرة كانت المسيح” (1كورنثوس
10: 1- 4). هذا المنطق اللاهوتيّ الذي قد يتبدّى للوهلة الأولى مخالفًا رجاحة
العقل له ما يقابله في منطق نشوء الأمم، ولو كان ثمّة شرخ كبير يفصل طرفَي
المقارنة. فتاريخ فرنسا مثلاً، بأنواره وظلاله، يصبح تاريخ كلّ من أغدقت عليه هذه
الأمّة جنسيّتها، ولو لم تقم أصوله العرقيّة ضمن الحدود الجغرافيّة لبلاد الغال.
لقد وعى المسيحيّون الأوّلون أنّه ليس في مقدورهم قراءة العهد القديم إلاّ في نور
يسوع، فنسبوا الثمين إليه واعتبروا الغثّ نتاج سقطات البشر. غير أنّهم أدركوا، في
جدليّة خلاّقة بعيدة عن السقوط في حلقة مفرغة، أنّهم في حاجة إلى كلمات العهد
العتيق وصوره وتاريخه، لأنّ يسوع تكلّم على نفسه مستعملاً هاتيك الكلمات والصور،
وارتضى أن تندرج رسالته ضمن هذا التاريخ. ولعلّ أبرز تعبير عن هذا الترابط الوثيق
بين العهدين سعي ماركيون المذكور أعلاه إلى إيجاد نسخة “منقّحة” من
العهد الجديد واضطراره، إثر ذلك، إلى نبذ ثلاثة من الأناجيل التي أصبحت في ما بعد
قانونيّة مكتفيًا بإنجيل لوقا بعدما اقتطع منه كلّ ما يمتّ إلى العهد القديم بصلة.
هذا يظهر أنّ العهد الجديد نسيجه لغة العهد العتيق ومفاهيمه، وأنّ لا سبيل لفهمه
وشرحه من دون الرجوع إلى ما جاء في التوراة والأنبياء والكتب الأخرى.

ولكن
ماذا عن أساطير الشرق الأدنى التي تجد صدىً لها في العهد القديم، وماذا عن الإله
الجبّار العتيّ ذي الميول القوميّة الذي يسير أمام الشعب اليهوديّ هازمًا أعداءه
ومنكّلاً بهم على نحو لا إنسانيّ؟ من الإله المتأنّس نتعلّم أنّ اللَّه لا لغة له
إلاّ لغتنا، فإذا تكلّم وأبلغ صار جسدًا. هو إذا أراد أن يقول نفسه في مبنى ومعنى
يصل إلينا – وإلاّ ما معنى القول؟ – لا يلغي ثقافتنا، بل يتّخذها وينقّيها لتصبح
أهلاً لسكناه. أساطير بلاد الرافدين كانت ثقافة ذلك الزمن وعلمه في آن واحد، تفسّر
الوجود وتتلمّس المعنى في حياة يضغط عليها وقت غاشم لا لون له ويخالها من رُموا
فيها عبثًا. اللَّه، في كتب العهد العتيق، يتجلبب هذه الأساطير، كما يتجلبب حكايا
الشعوب وأغاني الحبّ في النشيد العظيم – وكم كان الكتاب العتيق سيغدو جافًّا من
دونه – وثورة الإنسان على الألم في أشعار كتاب أيّوب، وكما يرتضي، وفق ما جاء على
لسان بولس في كتاب أعمال الرسل، أن يكون إله اليونانيّين “المجهول”، ولو
عبّروا عنه بوثن وساووه بالآلهة التي “عرفوها”. هو يتّخذ هذا كلّه لأنّه
معطيه، ولأنّ الأسطورة والقصص الشعبيّ والشعر والفلسفة – والفنّ الذي يهزم الموت
على حدّ تعبير محمود درويش – في كبريات تجلّياتها تقوله هو، كما تقول البوصلة
الشمال، إلى حدّ يستلهم فيه صانعو أولى الجدرانيّات المسيحيّة معالم وجه أبولون
لينشئوا وجه السيّد، ويصبح سقراط “مسيحيًّا قبل المسيح” على تعبير عظيم
من عظام الفكر المسيحيّ في تمتماته الأولى، نعني به يوستين الفيلسوف والشهيد. ولكن
اللَّه يتّخذ هذا ليطهّره ويصهره في بوتقته هو، فصورة اللَّه ومثاله في العهد
القديم ليس الملك كما رآه المصريّون القدامى وأهل ما بين النهرين، بل الإنسان في
وظيفته شبه البيولوجيّة: “فخلق اللَّه الإنسان على صورته.. ذكرًا وأنثى
خلقهم” (تك 1: 72). والشمس والقمر ليسا إلهين، بل مجرّد “نيّرين”
يتسلّطان على النهار والليل، ويتجنّب الكاتب الملهم حتّى تسميتهما. مؤسف أن نجد
أنّ ثمّة من ينتقد العهد القديم بحجّة “الترفّع” عن الأساطير، ولا سيّما
أنّ هذه “تناقض” العقل و”تنافي” المنطق. هذا منطق الفلسفة
الإيجابيّة الذي باتت تجتثّه الإنسانيّات اليوم. ويعرف دارسو الآثار الفكريّة
الإنسانيّة أنّ الرمز أعمق تعبيرًا عن الحقيقة من التجريد الجافّ، وأنّ ثقافتنا
الحديثة ما زالت تعبّ بغير كلل من الميثوس
myth الذي أبدعته قريحة
اليونان، وأنّنا لا نعيش اليوم فوق الأساطير، بل فيها. فكلّ عصر صانع أساطيره، ولو
اختلف التعبير عنها، وحسبنا النظر إلى تلك الآتية من بعض الأنظمة السياسيّة
والسينما وثورة الاتّصالات والهندسة الوراثيّة. نحن لا نبحث هنا في ما إذا كانت
أساطير الحداثة وما بعد الحداثة، كالفردوس الأرضيّ والتيتانيك والإنسان المتفوّق
جينيًّا، كاذبة أو صادقة، ملتصقة بالنُّور أو مستغرقة في خدمة بليعال. حسبنا
التأكيد أنّ الإنسان غير قادر على إلغاء البعد الرمزيّ-الشعريّ-الأسطوريّ من حياته
لأنّها من دونه متصحّرة. فلماذا نربأ باللَّه عن أن يجبل نفسه بأساطير البشر، إذا
كان مرماه أن يكشف ذاته بواسطتها؟

 

إله
العهد القديم نقرأه أيضًا انطلاقًا من يسوع الناصريّ، لأنّ ظهور اللَّه في يسوع هو
التعبير الأدقّ عن حقيقة اللَّه. ألم يعلن كاتب الإنجيل الرابع أنّ ذاك الذي لبس
بشرتنا وصلب هو “كلمة اللَّه”، أي أنّ حقيقة اللَّه تستعلن في ملء
قوّتها في ذاك الذي قضى على العود؟ ألم يكن هو الذي رسم صورة أبيه على الصليب، كما
يقول إلياس خوري؟ هذا هو الجواب المسيحيّ لمن ينتقد العهد القديم باسم الجرائم التي
“يرتكبها” فيه “يهوه اليهود”. إنّ ظهور اللَّه الكثيف في
الناصريّ يعلّمنا أنّ اللَّه في تاريخ الشعب اليهوديّ المنقول في العهد القديم –
كما في تواريخ الشعوب الأخرى كافّة – يظهر تارةً ويحتجب طورًا، وأنّ احتجابه، في
ديناميّة إعلانه لسرّه، ليس بأقلّ أهمّيّة من ظهوره، لأنّه، في المطاف الأخير،
الإله الذي لا ترقى إليه العقول البشريّة مهما تعالت. يحتجب اللَّه في العهد
القديم عندما تُسقط عليه الذهنيّة اليهوديّة الضيّقة مفاهيمها الدنيا، جاعلة منه
أداة تسوّي بواسطتها حساباتها مع الشعوب المجاورة. وكذا الحال اليوم لدى عدد لا
يستهان به من الأصوليّين يهودًا وغيرهم. وكذلك يحتجب في العهد الجديد خلف إنسانيّة
يسوع المسحوق على صليبه في عيون من ليست لهم آذان للسمع إلى حدّ اعتبارهم إيّاه
مجرّد إنسان عاديّ، كما يقول القدّيس مكسيموس المعترف في رسالته الشهيرة عن
المحبّة الموجّهة إلى يوحنّا كوفيكولاريوس. بيد أنّ إله العهد القديم يظهر في حكم
أنبياء التوراة على إسرائيل الذي تغرّب عن الرحمة والعدل، وفي إرساله يونان إلى
نينوى المدينة العظيمة للَّه (يونان 3: 3) رغم وثنيّتها، لكونه يفتقد الجميع ويريد
أن تتبارك كلّ قبائل الأرض بحسب قوله لحنيفه إبراهيم (تك 21: 3). وهو كذلك يظهر في
العهد الجديد على جبل التجلّي عبر جسد يسوع الملتحف بالضياء. غير أنّ جدليّة
الظهور والاحتجاب هذه ليست مرتبطة بمدى بلّوريّة البشر في اقتبالهم إعلانات اللَّه
فحسب، بل هي متأصّلة في حقيقة اللَّه نفسه المختلفة كلّ الاختلاف عن حقيقتنا.
فاللَّه بمجرّد ظهوره يحتجب، لأنّه يتّخذ ما ليس من طبيعته، وبمجرّد احتجابه يظهر،
لأنّه بذلك يُفهمنا اختلافه عن كلّ ما يقع في دائرة المخلوق، بحيث يستطيع صفيّه
المعترف أن يهتف، في إحدى أبلغ قولاته وأكثرها عمقًا، أنّه يحتجب ظاهرًا ويظهر
محتجبًا وأنّ سرّ المسيح يبقى سرًّا حتّى بعد استعلانه. جدليّة الظهور والاحتجاب
هذه تنطبق على الكتاب الكريم كلّه، عتيقه وجديده. بيد أنّ تنازل اللَّه إلينا في
يسوع، بمقدار ما أوتينا من قدرة على إدراكه والتعبير عنه ورغم أنّه في ذاته ينطوي
على احتجاب ما، يبقى منطلق تلمّسنا مدى ظهور اللَّه واحتجابه في كلّ شيء آخر. هل
يعني هذا أنّ التلهوت، أي الكلام على اللَّه، يدور في حلقة مفرغة، لكونه ينطلق من
احتجاب إلى احتجاب؟ نحن لسنا في حلقة مفرغة، ولكنّنا في جدليّة لا بدّ منها نابعة
من مخلوقيّتنا ومحدوديّتنا واضطرارنا إلى لغة هي في ذاتها أقصر من أن تحيط
بخبراتنا، فكيف بتعبيرها عن التماعات اللَّه. ولعلّ أزمة الفهم والتعبير والتبليغ
هذه هي ما دفعت معلّمي الكنيسة إلى الاعتبار أنّ أسلم ما يقال عن اللَّه تنزيهه عن
كلّ ما دونه، وكبار المتصوّفة إلى اللواذ بالصمت عندما كانت دفقات النُّور تعانقهم.
هل لكلّ هذا بعد علاقة بانتقاد “قداسة” العهد القديم؟ إنّ احتجابات
اللَّه في العهد العتيق، والتي كما ذكرنا آنفًا لا تقتصر عليه، بل تتعدّاه لتشمل
ديناميّة نقل اللَّه نفسه، قادرة على أن تصير، لا منطلق رفض رخيص لهذا الجزء من
الكتاب الكريم، بل مدعاة لكي يعيد بعض المثقّفين النظر في قراءتهم حركيّة التلاقي
الإلهيّ-البشريّ والتعبير عنه. معيار “الثقافة” الحقّ ذهن يضع نفسه تحت
مجهر النقد ويصوّب انحرافاته أينما كانت. بذا تُصان الحقيقة وبذا تستقيم المعرفة.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى