اللاهوت الروحي

الفصل الثالث



الفصل الثالث

الفصل
الثالث

الصليب
في حياتنا

24-
الصليب في حياتنا


فإن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة وأما عندنا نحن المخلصَّين فهى قوة الله”
(1كو1: 18).

مقالات ذات صلة

الصليب
هو أقوى حدث في حياة المسيح بالرغم من أنه أضعف موقف من مواقف الرب على الأرض –
فهو الذي يقول عنه الرسول بولس ” لأنه وإن كان قد صلب من ضعف لكنه حىَّ بقوة
الله. فنحن أيضاً ضعفاء فيه لكننا سنحيا معه بقوة الله من جهتكم.” (2كو13:
4).

تلك
هى لحظة الإخلاء العظمى التي بلغ فيها المسيح أقصى حدود الهوان عندما عُلق على
خشبة الصليب. لأنه معروف أن كل من يُعلق على خشبة هو ملعون بحسب الناموس القديم:
“لأن المعَلّق ملعون من الله. فلا تنجس أرضك التي يعطيك الرب إلهك
نصيباً” (تث21: 23). لذلك فالقديس بولس الرسول يقول:


المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا لأنه مكتوب ملعون كل من علق
على خشبة.” (غل3: 13).

وإذا
تأملنا الصليب، فنحن نتأمله كقوة فاعلة، حولت الموت إلى حياة ” بالموت داس
الموت”. حولت اللعنة الزمانية إلى بركة أبدية، حولت الخطية إلى بر، حولت
العداوة الى محبة، والظلام الى نور اشرق في قلوب الجالسين في الظلمة وظلال الموت
إشراقاً لا ينطفئ!

فكل
نور يُرى بالعين يمكن أن ينطفئ، أما نور الله إذا أشرق في القلوب فلا توجد قوة في
العالم يمكن أن تطفئه.


الذي قال أن يشرق نور من ظلمة هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في
وجه يسوع المسيح ” (2كو4: 6).

نرى
بوضوح إذن أن الصليب قوة جديدة دخلت العالم وأقوى من كل ما في العالم. حَّولت
السلبيات التي كان يرزح تحتها الإنسان إلى ايجابيات ينعم بها.

فإن
كان الصليب من الخارج هواناً ولعنة، فهو في الداخل مجد وكرامة. وهذا في الواقع
يعبر عن مضمون حياتنا التي نحياها في المسيح والتى يطالبنا بها الإنجيل كل يوم:
“من لا يحمل صليبه ويأتى ورائى فلا يقدر أن يكون لى تلميذاً” (لو 14:
27).

الصليب
هنا – بالمفهوم الانجيلى – المطلوب منا أن نحمله كل يوم على أكتافنا كنير ثقيل، هو
في حقيقته قوة حاملة للإنسان وليس ثقلاً عليه، يحول الموت الذي تملَّك الجسد بسبب
الخطية إلى قيامة وحياة أبدية بسبب دم الغفران المنسكب عليه.

الصليب
نواجه به ظلمة هذا العالم التي تسيطر على قلوبنا بسبب الخطيئة التي تقتحم حياتنا
كل ساعة، لأنه معروف أن بقوة الصليب تموت النفس عن شهواتها، فيتحول الحزن والكآبة
والندم إلى بر وابتهاج مع فرح أبدى.

وبقدر
ما يكون الصليب محنة حقيقية للنفس تجوز فيها غصة الموت، بقدر ما يتجلى الصليب عن
سلام يفوق العقل.

نحن
ننظر إلى الصليب كممارسة وحياة، وأن كل من لم يعش صليب ربنا يسوع المسيح، فهو لم
ينتقل أو يتحرك داخلياً ليذوق معنى العبور من حياة حسب الجسد لحياة حسب الروح،
الصليب آلة الفصح والقوة الخفية التي تحمل الانسان من الموت الى الحياة.

الصليب
حركة داخلية وقوة محولة، والذى لم يدخل اختبار الصليب لا يمكن أن يفهم قول القديس
بطرس الرسول: ” وأما أنتم فجنس مختار وكهنوت ملوكى أمة مقدسة شعب اقتناء لكى
تخبروا بفضائل الذى دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب.” (1بط2: 9).

وأيضاً
لا يعرف كيف يحول عداوة الناس المقدمة له مجاناً إلى محبة، والحزن الذي يضغط به
العالم على قلبه إلى فرح. أما من ارتضى أن يدخل في اختبار صليب المسيح، كنير يعيشه
كل يوم بكل خسائره عن مسرة، هذا يعرف كيف تتحول الظلمة إلى نور، والحزن إلى فرح،
والعداوة إلى حب، والضيق إلى مسرة وسلام.

لا
يوجد في العالم كله ما يعادل فرح الصليب!!


ودعوا الرسل وجلدوهم وأوصوهم أن لا يتكلموا باسم يسوع ثم أطلقوهم. وأما هم فذهبوا
فرحين من أمام المجمع لأنهم حسبوا مستأهلين أن يهانوا من أجل اسمه.” (أع5:
40،41).

ان
الفرح المتولد من عبور الألم الذي يكون على مستوى الصليب فهو يكون فرحاً متحركاً
يغير ويجدد القلب والفكر والنفس إذ حينما تنقشع المحنة بكل خسائرها يلتفت الانسان
فإذا به قد عبر مرحلة ما قبل الصليب ليدخل مرحلة ما بعد الصليب، والفارق بينهما
كالفارق بين الموت والقيامة: ينسلخ الانسان من الأشياء المحسوسة لتتجلى أمامه وفى
أعماقه الأشياء غير المحسوسة، وينتقل وهو في ملء الوعى لينفك من أمور الدهر
الفانى.

هذا
هو عجب الصليب، فالصليب هو معجزة الإنسان المسيحى التي يحياها كل يوم، هو سر
المسيح. وكل من لم يدخل بعد في خبرة الصليب فهو لم يذُق بعد حلاوة المسيح ولا
استمتع بعمق المسيحية.

وإذا
انتبهنا نجد أن الصليب هو القالب الذي ينصب فيه الإنجيل كله. فحينما يقول المسيح
” أحبوا أعدائكم” (مت5: 44)، يقولها على اساس أنك تحمل صليبه وتتقبل في
نفسك موت الصليب بالارادة، فامكانية أن تنفتح يديك للصالبين ليطعنوا كرامتك،
ويهينوا اسمك، ويسلبوا كل امكانياتك، وقدراتك، وكل مالك، هى كلها وصايا يسوع
القائمة على أساس حمل الصليب بمهارة كل يوم للمسير وراء المسيح.

 

25-
جهالة الصليب

الصليب
بحسب الواقع النظرى جمود وخسران وعدم؛ أما بحسب الواقع الروحى فهو تحرك داخلى إلى
أعلى، وانتقال من حال إلى حال أسمى، وتغيير جوهرى من مستوى جسدى الى مستوى إلهى،
وبشارة عجيبة ومفرحة من موت إلى قيامة!!

لذلك
نستطيع أن نقول إن الصليب كان الواسطة الاولى التي استعلن المسيح بها أنه ابن
الله، لأنه لم يكن ممكناً بدون الصليب أن تتم القيامة من الأموات بكل أمجادها، ثم
أعطانا في صميم طبيعتنا هذا السر العجيب أن نصير مثله (1يو3: 2) – وأيضاً بواسطة
الصليب – لننال قيامة تعطينا استعلان بنويتنا لله!!

صليب
ثم قيامة، هذا هو القانون الذي وضعه ابن الله في نفسه

وفى
جسده بموته على الصليب وقيامته، لذلك أصبح من غير الممكن أبداً أن يدخل الانسان في
خبرة الصليب مع المسيح بإيمان كامل إلا ويحوز على قيامة داخلية وتغيير حياة.

الحكم
بالصلب، هو أكثر أنواع الموت لعنة وعاراً. هذا هو مظهره، ولكن المسيح استطاع أن
يحول هذا الحكم المهين والمزرى إلى أعلى وأسمى حقيقة يمكن أن تستعلن على الأرض لمنطق
أو لعقل بشرى، وهى القيامة بمجد الهى!..

هذا
هو جوهر رسالة المسيح بالنسبة للإنسان.

فصليب
العار جعله المسيح، لما قبله على نفسه، قوة محولة قادرة أن تحول ذل الإنسان وعاره
وضعفه إلى شركة فى أمجاد قيامة المسيح مع هبة التبنى لله.

هذا
هو الصليب الذي لا يزال يُنظرإليه عند كثير من الناس أنه جهالة ولكنه وإن كان
جهالة فإن ” جهالة الله أحكم من الناس” (1كو1: 25).

أى
خطة الخلاص العظمى التي فدى بها الانسان وأقامه من الموت لحياة أبدية.

والصليب
يظل محصوراً في فكر الإنسان كحقيقة لاهوتية أو مبدأ عقيدى، إلى أن يرتفع إلى المستوى
العملى للصليب في حياتنا وذلك حينما نقبل حكم الموت في أنفسنا اضطهاداً أو ظلماً
واعتسافاً بيد الطغاة أو نُسلّم أنفسنا بإرادة حسنة للموت الاختيارى، كما يقول
القديسون، أى ندخل في عمق الاماتة لنموت عن أنفسنا وشهواتنا حينئذ تبدأ حقيقة
الصليب تتجلى في حياتنا كخبرة مضيئة وقوة رافعة

فالانسان
الذي يرفض أن يموت بإرادته عن العالم، ويجزع من أن يصلب أهواءه وشهواته وأعضاءه –
من أجل المسيح – هذا الإنسان يظل غريباً عن حقيقة الصليب. ربما يكون دارساً مدققاً
لمعانى الصليب اللاهوتية متقناً لمفهوم العقيدة نظرياً وفلسفياً، ولكن الصليب
كحركة داخلية وقوة ترفع الإنسان إلى مستوى تقديس الله، هذا يبقى شيئاً مخفياً عن
عين الإنسان وعقله. لهذا فالصليب لا يمكن أن تكشف قوته الإلهية إلا عند قبول الموت
والإماتة.

وهكذا
يظل الصليب جهالة ورعبة وموتاً جاهلاً لا يستطيع الإنسان أن يقترب منه، إلى اللحظة
التي فيها يكشف الروح للإنسان عن سر مجد الشركة في صليب ربنا يسوع المسيح، حينئذ
تدفع النعمة الإنسان في طريق الصليب ليذوق – في شجاعة – معنى الموت المحيى مع
المسيح. وحينئذ يتجلى الصليب كحكمة الله وقوة الله للخلاص.

إن
أصدق علامة لحمل الصليب هى أن يكون البذل والإماتة والخسارة عن رضى وحب وسرور،
بمعنى أن أفقد بالفعل ذاتى وأنكرها، ذاتى التي تطلب الشكر والمديح ورد الجميل. هنا
تبدأ فعلاً صورة الصليب، حيث لا يكون عائد كرامة أو شكر أو ربح من أى نوع، بل على
النقيض نكران وهجران وعداء واعتداء.

يلاحظ
هنا أن مواصفات الصليب مأخوذة من مشهد الجلجثة ومحاكمة المسيح بعد حياة كلها بذل
وحب.

 

26-
إيجابية الصليب

ولقد
أعطانا السيد المسيح المواصفات الإيجابية للصليب وما هو قبل الصليب، أى نعمل عن
مسرة حتى ولو كان عملنا مكروهاً وبذلنا مرفوضاً.

أما
السر الأخير للصليب فهو الموت على الصليب. لذلك فالمسيح لما أكمل الموت على الصليب
أعطانا سر الصليب وقوة موته كاملة، بل وكل ما هو قبل الصليب من صبر واحتمال على
الموت، أعطاه لنا كخبرة حية ممكن أن نمارسها كل يوم. وهذا يعتبر من أهم معجزات
ومواهب الحياة المسيحية. فبالإيمان بالمسيح نأخذ أشياء لم نعملها، كأن نصير شركاء
الصليب وارثين لبركاته دون أن نُصلب فعلاً، وهكذا نأخذ حقوقاً لا نستحقها، ونأخذ
مواهب لا ندفع ثمنها.

وقوة
الصليب هو من أهم هذه الحقوق والمواهب: “مع المسيح صُلبت” (غل2: 20)، أى
أن المسيح حينما صُلب عن العالم أعطانا أن نحصل على هذه الموهبة عينها بالإيمان،
فصارت في متناول حياتنا. ليس فقط أن نبذل من أجل أحبائنا أو نفقد إزاء مضطهدينا
وأعداءنا، بل أن نموت أيضاً بإرادتنا عن العالم كحقيقة نستطيع أن نمارسها بقوة
صليب المسيح.

فالصليب
يُحسب لنا صليباً، إذا استطعنا أن نمتد من البذل من أجل أحبائنا الى البذل من أجل
اعدائنا، ثم الى الخسارة بإصرار وبرضى، وباستعداد الموت من أجل أحبائنا وأعدائنا
معاً.

إذا
استطعنا أن نضع هذا الحق نصب أعيننا كمسيحيين فنحن نكرم الصليب وخشبة الصليب،
لأننا بذلك نأخذ من المسيح سر الصليب كحقيقة نمارسها بالحب.

إن
كان لنا هذا الاستعداد: أن نبذل من أجل أحبائنا وأعدائنا ونخسر كل شئ في حياتنا
باستعداد الموت، فنحن نستطيع أن نتجاوز مرارة الصليب الى مسرة القيامة.

ولكن
الصليب بالكلام سهل، أما الحقيقة فمّرةٌ.. الكلام عن الصليب لاهوتياً ووعظياً لذيذ
وسهل ومنطقى، ولكن كتجربة، حينما ندخل فيها نجدها مليئة بالألم.

حينما
نجوز الآلام – من أى نوع – ولا يبدو لها نهاية، حينئذ تبدأ المرارة ورعبة الموت.
ولكن كل ضيقه نجوزها، وكل ظلم أو مرض نجوزه ونرتضيه حتى الى حدود الموت فإنه يُحسب
لنا في الحال صليباً وشركة حقيقية في صليب المسيح.

إن
البذل من أجل الإخوة أو الأحباء أو الأصدقاء، هذا بذل محبة، ليس له ثمن، لأن ثمنه
مردود لك في حينه فهو محبة وليس صليباً لأنه ينشى فرحاً ومسرة للنفس فثمنه فيه. أن
تحب أخاك أو تُسلّم عليه فأى فضل لك؟! لكن المحبة تبدأ تُحسب أنها تسير على درب
الصليب على نمط الجلجثة، حينما يبدأ البذل أن يكون مرفوضاً والمحبة تُرد إليك
عداوة وخسارة، والبساطة والتودد يُقابل بالحقد والانتقام.

 

27-
خبرة الصليب

ولكن
لا غنى لنا عن خبرة الصليب والسعى وراء حمله حسب وصية الرب، لأنه إن لم يَصيرْ
الصليب – أى الموت عن العالم – في حياتنا حقيقة مقبولة وطريقاً مُشتهى، فسنبقى
بعيدين كل البعد عن سر القيامة والحياة الأبدية. فالحياة المسيحية كلها هى حركة
مستمرة للأنتقال من الحياة حسب الجسد الى الحياة حسب الروح، وذلك لا يتم إلا من
خلال الصليب.

على
أن الصليب وإن كان خارجه أو بدايته رعبة ومرارة، فعاقبته نصرة حتمية وسلام وفرح لا
يوصف. فعندما ندخل في ضيق – أى ضيق من أى نوع – ونتذكر الصليب الذي صلب عليه ربنا
يسوع المسيح، ونضعه أمامنا هدفاً لنا، تتحول الضيقة المرة الى بركة وسلام فيه،
وتتحول الخطية الى احساس بالتبرير فيه، والعداوة تزول ويحل محلها مصالحة وصفح أمام
المسيح والآب فيه إذن فلننتبه جداً حينما يداهمنا الضيق، لأننا عندما نجوزه برضى
ونتقبله كما تقبله المسيح على الصليب كإرادة الآب عن رضى وسرور داخلى، ننال قوة
الصليب، ونذوق النور والحق والحياة من خلال الحزن والألم والضيق.

الصليب،
هو بحسب فعله السرى في كيان الإنسان والجسد محيى حقاً، فإذا استطعت أن تحتوى
الصليب في قلبك كهدية حياة من السماء، فلا الباطل الذي في العالم يستطيع أن يغشاك
ولا ظلمة العالم تستطيع أن تطفئ نور الحياة داخلك، ولا أى ضيقة في العالم أو خطية
تستطيع أن تحصرك أو تربطك. هذا لو قبلت الصليب كقوة غلبة وخلاص في شخص المسيح
المصلوب. وهذه هى حقيقة الإنجيل كله: “قوة الله للخلاص “، و” قوة
الله “، و”حكمة الله ” و” مجد الله”.

وهذه
الحقيقة هى التي انكشفت لجميع الشهداء والقديسين، فقبلوا الصليب بفرح من أجل ما
وراءه من سرور ونصرة.

لهذا
فإن كل من أدرك سر الصليب فإنه لا يعود يتهرب من الضيق أو يخشى الظلم أو يخور تحت
الاضطهاد فسرُّ الصليب قوة وهبت لنا لتسكن داخل قلبنا وأجسادنا لتحول كل ما فينا
وكل ما هو خارجنا لحساب مجد الله. وهى كهدية، تظل بلا قيمة الى أن ندخل الضيقة، أو
الى أن تتضافر ضدنا قوى الظلام، حيث يبدأ الصليب يعمل عمله ليتمجد الله في موتنا
وحياتنا.

 

28-
الصليب ينقلنا من البغضة إلى المحبة

كيف
ينقلنا الصليب من البغضة إلى المحبة؟!

إنسان
مظلوم يحقد ويبغض ويهدد، هذا في الحقيقة انحصر عنه نور الصليب لأن روح العالم
استطاع أن يحتويه.

والانسان
الذي ينفتح كيانه لحركة العداوة والحقد يلبسه روح العالم في الحال، لأن العداوة
تتغلغل في النفس والجسد والعقل والأعصاب ويصير وكأنه سحابة مظلمة تخيم عليه. وكما
يقول القديس يوحنا الرسول: “وأما من يبغض أخاه فهو في الظلمة وفى الظلمة يسلك
ولا يعلم أين يمضى لأن الظلمة أعمت عينيه ” (1يو2: 11).

أكبر
حاجز يحجب نور الحب الإلهى عن الإنسان هو العداوة والبغضة حينما تكون دفينة في
القلب. الصليب وحده هو القوة الإلهية التي هدمت العداوة والتى جاء المسيح لكى
يرفعها في جميع صورها، سواء بين الانسان والله أو بين الإنسان والإنسان.


هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكى لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له
الحياة الأبدية” (يو3: 16).

هنا
حب الله للعالم لم يكمله إلا صليب المسيح، فالحب لا يملك القلوب إلا بالصليب.

ففى
الحقيقة إن الحب والصليب لا يمكن أن يفصلهما عن بعض إلا العداوة. والعداوة والبغضة
تلغيان قوة الحب وقوة الصليب معاً، لذلك حينما تدخل البغضة تفصل الانسان نهائياً
عن الصليب، وبالتالى عن كل ما يختص بالفداء والخلاص.

الله
حينما أراد أن يصالح الإنسان بنفسه، صالحه بالصليب!!

لا
يمكن أن ترتفع البغضة من قلب الانسان إلاإذا قَبِلَ أن يموت عن مبغضيه أى قَبِلَ
الصليب لابد أن يكون الانسان في استعداد لهذا الموت دائماً وكاملاً عن العالم وكل
ما في العالم، لينفتح أمامه باب الحياة.

فإنسان
يترك قلبه للبغضة معناه أنه لم يمت عن العالم بعد، لم يذق هبة محبة الآب للعالم أى
الصليب!! هبة الاب للعالم هى بذل ابنه الوحيد على الصليب. فالصليب بحق هو قوة حولت
حالة العالم كله من تحت الغضب الإلهى إلى محبة أبوية فائقة. ويقول معلمنا بولس
الرسول في رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس: “أى إن الله كان في المسيح
مصالحاً العالم لنفسه غير حاسبٍ لهم خطاياهم وواضعاً فينا كلمة المصالحة (2كو5:
19) لكن حينما يتجاهل الانسان ذبيحة المسيح على الصليب التي أكمل بها المصالحة
وأسس بها الحب ثم يعود ويُملّكِ العداوة والبغضة في قلبه، فإن هذا يكون بمثابة
إعطاء تصريح رسمى للشيطان ليعود بنا مرة أخرى لنكون تحت الغضب الالهى. إذن فغياب
المحبة معناه غياب الصليب وبالتالى غياب محبة الله وسلامه، لقد عبر القديس بولس
الرسول عن قوة المصالحة الكامنة في الصليب هكذا: “ويصالح الاثنين في جسد واحد
مع الله بالصليب قاتلاً العداوة به.” (أف2: 16).

لو
استطعنا أن نؤسس في القلب عهد حب على هذا المستوى، فهذا يكون عيداً للصليب في
الأرض وفى السماء.

وحينما
أراد الله أن يحب العالم، بذل ابنه على الصليب، هكذا إن أردت أن تحب، فلابد أن
يكون حبك على أساس البذل لتحيا نفسك والعالم حولك.

من
أجل هذا كان همُّ القديس بولس الرسول الأول من جهة ثبوت الكنائس في ايمان المسيح
أن يكون الصليب حقيقة حية وقوة محركة: “لأنى لم أعزم أن أعرف شيئاً بينكم إلا
يسوع المسيح وإياه مصلوباً.” (1كو2: 2)، ليس يسوع المسيح فقط وإنما يسوع
المسيح مصلوباً. ممكن أن تكون مسيحياً ولا تحتمل الظلم والاضطهاد والإهانة فتكون
حينئذ غير مدرك لمعنى الإيمان بالمسيح المصلوب – ” لأنى لم أعزم أن أعرف
شيئاً بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوباً” (1كو2: 2). معناها أنى أريد أن
يكون إيمانكم قائماً على أساس المسيح الذي مات من أجلكم وأن يكون ثمر هذا الإيمان
فيكم استعدادكم أيضاً للموت حباً وللآخرين.

لو
ارتفع معيار هذه المحبة للمستوى الذي صُلب به المسيح الذي وهبه لنا في سر الكنيسة،
سواء في سر المعمودية أو التناول أو بقية الأسرار، لاستطعنا أن نقدم المسيح للعالم
كله دون أن نتحرك من مكاننا!! لأن كل من حاز سر الصليب في قلبه وحياته، صار هو
بدوره قوة في العالم لا تنتهى لتحويل البغضة الى المحبة

لأن
الذي يصنع سلاماً ويصالح اثنين، ابن السلام يُدعى. ولكن من ذا الذي يستطيع أن
يصالح اثنين متخاصمين إلا من كان على استعداد أن يبذل حياته عنهما؟

العالم
اليوم محتاج لانسان المصالحة، إنسان الصليب، الذي يستطيع أن يكرز بالحب والصلح
والسلام والحياة يقول القديس يوحنا الرسول: “نحن نعلم أننا قد انتقلنا من
الموت إلى الحياة لأننا نحب الاخوة. من لا يحب أخاه يبق في الموت.” (1يو3:
14).

عندما
نحب الاخوة ننتقل من الموت الى الحياة. نعم، ومن يستطيع أن يحب الإخوة إلا الذي هو
على استعداد أن يموت كل يوم على صليب ربنا يسوع المسيح، الذي أخذ في نفسه قوة أن
يغلب الشر بالخير وقدرة أن يقتل العداوة بالحب؟ هذا هو الذي انتقل من الموت إلى
الحياة، واستطاع بالتالى أن يحول الموت في الآخرين إلى حياة. نحن في احتياج لنعيش
في سر الصليب وقوته فنعيد لصليب المسيح بالروح والحق.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى