علم الانسان

هل الإيمان بالمسيح يحتِّم علاقة شخصية بالمسيح؟



هل الإيمان بالمسيح يحتِّم علاقة شخصية بالمسيح؟

هل
الإيمان بالمسيح
يحتِّم علاقة
شخصية بالمسيح؟

nvlvn

عنصر
العلاقة الشخصية بالمسيح يشكِّل في الإيمان المسيحي أعظم وأخطر الأركان التي تقوم
عليها حياة الإنسان في المسيح يسوع.

لأنه
إما ينحصر الإيمان في المدارك العقلية ليبقى المسيح شخصية أخرى يقترب منها العقل وقتما
يشاء ويتأمل ويناظر ويصف ويتحدث عن شخص اسمه يسوع المسيح، حتى ولو بلغ أنه هو ابن
الله، والله ظهر في الجسد، وأنه المخلِّص والفادي، ولكن كل ذلك من مدارك العقل
والحفظ والاستذكار؛ وإما يكون الإيمان عن شهادة الروح والإحساس بالانطباع الكياني
الذي أنشأه المسيح في الإنسان الجديد الجواني عن الابن الوحيد المحبوب وحيد الآب،
الذي طبع بصمات جروحه على الصليب في هيكل جسدنا الجديد ووهبه روح قيامته، فصار
للمسيح وجود وكيان مذبوح حيٌّ قائم من بين الأموات في أغوار خلقتنا الجديدة، التي
عنها صرخ القديس بولس بإحساس يقيني وشهادة صدق علنية، لنوع الاتحاد السرِّي الذي
دخل به الرب الروح في حياة القديس بولس ليقول: “فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا
فيَّ” (غل 20: 2)، توثيقاً لشهادة المسيح الإلهية الصادقة: “أنتم فيَّ
وأنا فيكم” (يو 20: 14)، “اثبتوا فيَّ وأنا فيكم” (يو 4: 15)

هذا
هو واقع إيمان الروح وليس العقل المدرِك لماهية ابن الله. فالإيمان بالمسيح يكون
على درجتين:

الأولى:
الدرجة
الإنسانية العقلانية الذكية الفاهمة لماهية الرب الإله التي يمكن أن نكتب عنها
الكتب ونتكلَّم ونتحدث باستفاضة عن كيان إلهي آخر نراه من بعيد ونحكي عنه.

والثانية:
الدرجة
الروحانية التي عن وعي الروح ترى الرب الروح وتحسُّه، لا إحساس الآخر، ولكن
الإحساس الذي يتلاشى فيه “الأنا”أي الذات، فمنه هو أستمد إحساسي بذاتي، إذ لا
وجود لي إلاَّ به وفيه: “الذي من أجله خسرت كل الأشياء، وأنا أحسبها نفاية
لكي أربح المسيح، وأُوجد فيه” (في 8: 3و9). واضح من كلام القديس بولس أنه خسر
كل الأشياء ولم يبقَ له شيء إلاَّ المسيح! هذا الذي ملأ كيانه ووجدانه، فلم يَعُدْ
يفكِّر أو يحس بشيء إلاَّ في المسيح. هنا إيمان القديس بولس بالمسيح جعل المسيح كل
شيء للقديس بولس حتى نفسه.

هذا
الإدراك الروحي الواعي بشخص المسيح المالئ الكل لا يمكن أن يدركه العقل على
الإطلاق، لأن العقل يدرك الآخر ولا يدرك نفسه، والإيمان الروحي بالمسيح جعل المسيح
هو نفسي، لم أعُدْ آخر للمسيح ولا المسيح عاد آخر بالنسبة لي: “وأما مَنْ
التصق بالرب فهو روح واحد” (1كو 17: 6)، وبالتالي: “مَنْ سيفصلنا عن
محبة المسيح؟ أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عُرْي، أم خطر أم سيف؟.. إني
متيقِّن أنه لا موت ولا حياة.. تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح
يسوع” (رو 35: 839)

فالمسيح
هو الكل الذي يملأ الكل: “الكل في الكل” (أف 23: 1)، ولا يستطيع
إنسان فرد أن يستوعبه إلاَّ بقدر ما يملأه، ويستحيل أن يستوعبه أحد مهما بلغ من
الإيمان به إلاَّ بقدر ما يشترك فيه ويتَّحد.

فالمسيح
يستعلن نفسه لي بقدر ما يسعه إيماني وتدركه روحي. وخارجاً عن نفسي وعن روحي لا
أدرك المسيح إلاَّ بعقلي باعتباره آخر. وفرق بين أن يستعلن المسيح نفسه لي، وأن
أدركه أنا بعقلي. فما يستعلنه المسيح من نفسه لي هو حصيلة إيماني واتحاده بي
بنعمته. أما إدراكي أنا للمسيح بعقلي فلا علاقة له بإيماني ولا يوصِّلني إلى
الاتحاد به، بل يظل خارجاً عني إلى أن أقبله بإيماني فيستعلن نفسه لي، وباستعلان
الروح أدركه.

إذن،
أصبح الإيمان بالمسيح هو حقيقة صلتي بالمسيح وصلة المسيح بي. فالثبوت في المسيح
وثبوت المسيح فيَّ المعبَّر عنه بالاتحاد بالمسيح الذي هو الشركة المقدسة بالروح
والحياة في المسيح، هو معيار الإيمان الصحيح والعملي: “أما شركتنا نحن فهي مع
الآب ومع ابنه يسوع المسيح” (1يو 3: 1)

هنا
معرفة المسيح والإيمان به هي معرفة ذاتية وليست فكرية: “لأنكم إن لم تؤمنوا
أني “أنا هو”تموتون في خطاياكم” (يو 24: 8). هنا الإيمان بالمسيح إيمان
بذاته أنه “الكائن بذاته”، وهو لقب يهوه في القديم. والإيمان بذات المسيح لا يأتي
بالمعرفة العقلية، بل بقبوله الشخصي باعتباره أنه هو حياتنا الجديدة، حياتنا
الحقيقية، التي كانت مخفية عند الآب وأُظْهِرَت لنا بحسب خبرة القديس يوحنا
الاستعلانية للمسيح الكلمة:

+
“الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة
(المسيح). فإن الحياة أُظْهِرَت، وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية
(المسيح) التي كانت عند الآب (“والكلمة كان عند الله”يو 1: 1) وأُظْهِرَت لنا.
الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به، لكي يكون لكم شركة معنا. وأما شركتنا نحن فهي مع
الآب ومع ابنه يسوع المسيح. ونكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملاً” (1يو 1: 14)

بهذا
يدخل بنا القديس يوحنا إلى مبدأ لاهوتي خطير وجديد: أن استعلان “الكلمة”هو
استعلان الحياة الأبدية التي كانت مخفية عند الله الآب وأُظهِرت لنا بظهور
المسيح. هنا يشدِّد القديس يوحنا على كلمة “لنا”. فظهور الحياة الأبدية كان
خاصاً بنا، إذ احتوانا كظهور الشمس لنا، حيث تصبح الشمس فينا ونحن فيها دفئاً
ونوراً.

وهكذا
ظهور المسيح لنا يزداد خصوصية، لأن يوحنا الرسول يقول: إن الحياة التي كانت عند
الآب “أُظهِرَت”خاصة لنا بإرادة الآب. فالحياة الأبدية استُعلنت لنا
خاصة. هذه الخصوصية الشديدة والفريدة هي التي وصفها القديس يوحنا ب
“الشركة”مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح.

عملية
الاستعلان هنا تشمل حتماً عمليات الاختيار والتقديس والتبرير معاً. هنا يُجْمِل
القديس يوحنا كل لاهوت القديس بولس من فداء وخلاص ومصالحة وتبرير وتبنٍّ في عمل
واحد فريد: استعلان الحياة الأبدية التي كانت عند الآب، وهي “الكلمة”، استعلنها
خصيصاً لنا فاحتوانا الكلمة احتواءً، فصرنا في هذه الحياة الأبدية وهي فينا،
وبالتالي في المسيح والآب، وصرنا شركاء حياة في الآب وفي ابنه يسوع المسيح. هذا هو
منتهى الخلاص.

وهذا
يتوافق مع منتهى محبة الله ونعمته، وهي عينها التي سكبها على القديس بولس الرسول
مرة واحدة، إذ بعد أن آمن واعتمد قام يشهد للمسيح في المجامع أن هذا هو ابن الله.
لقد غمرته الحياة الأبدية مرة واحدة فصار فيها يحيا سر الشركة مع الآب وابنه يسوع
المسيح بلا تعليم. وكل ما عرفه بولس الرسول هو ما عرفه المولود أعمى هكذا: أنه كان
أعمى والآن يبصر!

ومن
هنا جاء معنى الفرح الكامل، لأن سرَّ الفرح الكامل هو اندفاق الحياة الأبدية دون ترقُّب أو معاناة أو أي أداء من طرفنا.
وهذا معنى الاختيار والتعيين
المجانيَّيْن حسب غِنَى نعمة الله. فالأعمى
نال نعمة النور الكامل لمجرد الإرادة: “يا سيدي (أريد) أن أُبصر” (مر 51:
10)، فأبصر “وبحسب إيمانك ليكن لك.”(راجع مت 29: 9)

هنا
القديس يوحنا لم يقلِّل من قيمة الفداء والكفَّارة لأنه وصفها كتأمين للحياة
الأبدية بعد نوالها: “يا أولادي، أكتب إليكم هذا لكي لا تخطئوا. وإن أخطأ أحد
فلنا شفيع عند الآب، يسوع المسيح البار، وهو كفَّارة لخطايانا. ليس لخطايانا فقط،
بل لخطايا كل العالم أيضاً” (1يو 1: 2و2). الصليب هنا مع الفداء والكفَّارة
جاء لتأمين الحياة الأبدية التي نلناها لَمَّا استُعلنت في شخص يسوع المسيح،
لتأمين الشركة والثبوت فيها. ولقد سبق وأشار المسيح أنه هو القيامة والحياة: “أنا
هو القيامة والحياة. مَنْ آمن بي ولو مات فسيحيا” (يو 25: 11). وأمَّنت مرثا
على هذا بقولها: “قالت له: نعم يا سيد، أنا قد آمنتُ أنك أنت المسيح ابن الله،
الآتي إلى العالم” (يو 27: 11) إشارة إلى الاستعلان. فالمسيح استُعلن أنه
الحياة الأبدية قبل الصليب: “أنا هو الطريق والحق والحياة” (يو 6: 14)

لذلك
احتسب القديس يوحنا أن الصليب والموت والكفَّارة جاءت لتوثيق وضمان الحياة الأبدية
التي كانت عند الآب في الكلمة واستُعلنت لنا بالتجسُّد، ونلنا بمقتضى ظهورها شركة
فيها بالروح مع الآب والابن التي نادى بها القديس يوحنا: “الذي رأيناه
وسمعناه نُخبركم به، لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا. وأما شركتنا نحن فهي مع الآب
ومع ابنه يسوع المسيح. ونكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملاً” (1يو 3: 1و4)

وهكذا
اعتبر القديس يوحنا أن استعلان أو ظهور يسوع المسيح ابن الله هو نفسه الوعد الذي
وعدنا به الله: “وهذا هو الوعد الذي وعدنا هو به: الحياة الأبدية” (1يو
25: 2). وظهور المسيح الذي هو ظهور الحياة الأبدية هو برهان عمل محبة الآب: “بهذا
أُظْهِرَت محبة الله فينا: أن الله قد أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به
(1يو 9: 4). على أن عمل الحياة الأبدية فينا الذي هو عمل محبة الله نحونا في
المسيح يسوع أسبق من عمل الكفَّارة، فهو أحبَّنا أولاً ثم كفَّر عن خطايانا بموت
ابنه: “في هذا هي المحبة: ليس أننا نحن أحببنا الله، بل أنه هو أحبنا، وأرسل
ابنه كفَّارة لخطايانا” (1يو 10: 4). فالتكفير عن الخطايا جاء لضمان قيام
الحياة الأبدية.

لذلك
جُعِلَ الميلاد الثاني من الماء والروح، أي الميلاد من الله، هو بمثابة الدخول إلى
الحياة الأبدية حيث ليس خطية: “كل مَنْ هو مولود من الله لا يفعل
خطية، لأن زرعه يثبت فيه، ولا يستطيع أن يخطئ لأنه مولود من الله” (1يو
9: 3). ذلك باعتبار أن الخطية من أعمال إبليس: “مَنْ يفعل الخطية فهو من
إبليس، لأن إبليس من البدء يخطئ” (1يو 8: 3)، وأن المسيح قد جاء لينقض إبليس
وأعمال إبليس: “لأجل هذا أُظْهِرَ ابن الله لكي ينقُض أعمال إبليس” (1يو
8: 3). لذلك تنحصر هنا الخطية في معنى “العمل ضد الله”، كونها من عمل إبليس.
ولهذا يصبح حقاً أن المولود من الله لا يعمل خطية أي لا يعمل عملاً ضد الله، لأن
زرع الله أي روح الحياة فيه، ويستحيل أن روح الحياة في
المسيح يعمل ضد الله.

ثم
عاد القديس يوحنا يفرِّق بين خطية مميتة ليس لها غفران (1يو 16: 5و17) وهي إنكار
المسيح ابن الله أنه جاء بالجسد، أي إنكار استعلان الحياة الأبدية؛ وخطية أخرى غير
مميتة وهي كل خطية لا يدخل فيها إنكار المسيح ابن الله أو استعلان الحياة الأبدية
بالتالي. هذه لا يخلو منها أي إنسان: “إن قلنا إنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا
وليس الحق فينا” (1يو 8: 1). ثم أدخل كل الخطايا التي ليست موجَّهة ضد الله
وإنكار الابن وإنكار الحياة الأبدية تحت الغفران بالاعتراف: “إن اعترفنا
بخطايانا فهو أمين وعادل، حتى يغفر لنا خطايانا ويُطهِّرنا من كل إثم” (1يو 9:
1)، “ودم يسوع المسيح ابنه يُطهِّرنا من كل خطية” (1يو 7: 1)

على
أن القديس يوحنا يطالبنا أن لا نخطئ، وبهذا جعل الخطية مسئولية الإرادة، ولكن عاد
وأدخل الخطية تحت قوة الكفَّارة التي لدم المسيح بواسطة شفاعة المسيح عند الله
الآب: “يا أولادي، أكتب إليكم هذا لكي لا تخطئوا. وإن أخطأ أحد فلنا
شفيع عند الآب، يسوع المسيح البار، وهو كفَّارة لخطايانا. ليس لخطايانا فقط بل
لخطايا كل العالم أيضاً” (1يو 1: 2و2)

وبهذا
يكون القديس يوحنا قد ضمن بقاءنا في الحياة الأبدية في شركة مع الآب ومع ابنه يسوع
المسيح بصورة ثابتة، إذ أخضع الخطية تحت سلطان الشفاعة والغفران، فأصبحت حياتنا
مؤمَّنة ضد الموت والهلاك، بل مكفول لها الثبات في المسيح والفرح الكامل.

والحياة
الأبدية عند القديس يوحنا في معيارها اللاهوتي تُساوي الخلاص عند القديس بولس.
ولكن إن كان كل شيء عند القديس بولس ينتهي بالخلاص سواء الكفَّارة والفداء أو المصالحة
والتبنِّي، إلاَّ أن عند القديس يوحنا فإن كل شيء يبتدئ بالحياة الأبدية وينتهي
إليها. لذلك نجده في إنجيله يبدأ بالحياة الأبدية: “فيه كانت الحياة، والحياة
كانت نور الناس” (يو 4: 1)، وينتهي إنجيله بأن غاية الإنجيل هي أن يكون لنا
حياة باسمه: “وأما هذه فقد كُتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله، ولكي
تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه” (يو 31: 20). كذلك يبتدئ رسالته الأولى
بالحياة الأبدية: “التي كانت عند الآب، وأُظهِرَت لنا” (1يو 2: 1)،
وينتهي من الرسالة بالحياة الأبدية أيضاً: “ونحن في الحق في ابنه يسوع المسيح.
هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية” (1يو 20: 5)

وهو
يؤكِّد أننا نلنا الحياة الأبدية بالإيمان باسم يسوع المسيح. وأن المسيح يؤمِّن
لنا الوجود في هذه الحياة الأبدية بشفاعته لدى الآب إزاء خطايانا باعتباره أنه
قدَّم نفسه كفَّارة لخطايانا، بل ولخطايا كل العالم أيضاً. لذلك فإنه يؤكِّد
لأولاده أن خطاياهم قد غُفرت ليعيشوا “بضمير عدم الخطايا”تأكيداً لما كتبه
القديس بولس الرسول في رسالة العبرانيين: “فكم بالحري يكون دم المسيح الذي
بروح أزلي قدَّم نفسه لله بلا عيب، يُطهِّر ضمائركم من أعمال ميتة لتخدموا الله
الحي”
(عب 14: 9)

والقديس
يوحنا يسلِّح ضمائرنا بحالة غفران أكيد مهيَّأ لنا لدى المسيح: “إن اعترفنا
بخطايانا فهو أمين وعادل، حتى يغفر لنا خطايانا ويطهِّرنا من كل إثم”
(1يو 9: 1). وهذا التأكيد المتزايد من جهة رفع إحساسنا بالخطية من جهة الضمير يجيء
عند القديس يوحنا تكراراً وبتركيز حتى لا يختل إحساسنا وتمتُّعنا بشركة الحياة
الأبدية مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح، وليكمل فرحنا.

فالاستمتاع
بالخلاص عند القديس بولس يجيء عند القديس يوحنا استمتاعاً بالحياة الأبدية والشركة
مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح. وإن كان الإيمان هو حارس الخلاص عند القديس بولس،
فالمحبة هي حارسة الحياة الأبدية والشركة مع الآب وابنه يسوع المسيح عند القديس
يوحنا. وإن كانت الخطية عند القديس بولس قد أبطلتها النعمة، فالخطية عند القديس
يوحنا قد غلبتها المحبة.

فالخلاص
عند القديس بولس طريقه صاعد من الأرض إلى السماء، ومن الإنسان إلى الله. أما
الحياة الأبدية عند القديس يوحنا فهي استعلان من الله ليغمرنا، فنرى أنفسنا في
شركة الحياة مع الآب والابن، ولسان حالنا هو: “أني كنت أعمى والآن
أُبصر” (يو 25: 9)

والحياة
الأبدية عند القديس يوحنا يحكمها عنصران من عناصر الروح: المعرفة والمحبة. و“المعرفة”هي
بنت الاستعلان، لأن استعلان كلمة الله الذي كان عند الآب وأُظهِرَ لنا يعني
في الحال التعرُّف على الآب، والتعرُّف على الآب يولِّد المحبة: “لا أعود
أُسمِّيكم عبيداً، لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيده، لكني قد سمَّيتكم أحبَّاءَ
لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي”
(يو 15: 15)

وهكذا
صار جوهر الحياة الأبدية: “حب ومعرفة”، والمعرفة كُنِيَ عنها بالنور وبالحق
أيضاً. ويلذ للقديس يوحنا أن يقرن المحبة بالنور: “مَنْ يحب أخاه يثبت في
النور وليس فيه عثرة. وأما مَنْ يبغض أخاه فهو في الظلمة، وفي الظلمة يسلك، ولا
يعلم أين يمضي، لأن الظلمة أعمت عينيه” (1يو 11: 2). فلو قلنا إن النور هو
الله وهو الحق، يظهر بوضوح جداً هدف القديس يوحنا. لأن الذي يحب يثبت في الله
والحق، والذي يبغض يخرج خارج الله، في الظلمة حيث لا طريق ولا باب ولا رؤية.

بل
إن: “كل مَنْ يحب فقد وُلد من الله” (1يو 7: 4)، لأن المحبة المسيحية هي
صفة الإنسان الجديد، الخليقة الجديدة المولودة من الله على شكله، فأصبح الحب
مقياساً حسَّاساً لحدوث عملية الولادة الثانية من فوق أي الخليقة الجديدة بالروح.

والحب
عرفناه أنه ابن المعرفة، والمعرفة عرفناها أنها بنت الاستعلان. هذا يعني أن الحب
الذي أحب به أخي هو حب استعلاني!! وما معنى هذا؟ هذا يعني أن حب أخي هو اكتشاف أو
استعلان حقيقة إلهية تجذبني نحو أخي، فيصير حبنا هو انجذاب ثنائي متَّجه نحو الله
تغذِّيه معرفة جديدة إلهية. بهذا يتأكَّد أن حبي لأخي هو في النور ويتغذَّى به.
هذا يُكنى عنه بالحب في الله، في المسيح، في الروح، في الحق، في النور، في الحياة
الأبدية.

فالحب
حياة، والحياة حب أحياه ويحياه معي أخي. إذن، فالبغضة موت وقتل، موت لنفسي ونفس
أخي معي، لأني حرمت نفسي وحرمته من الحياة: “كل مَنْ يبغض أخاه فهو قاتل
نفس” (1يو 15: 3)

فارق
شاسع بين الحب الجسدي بكل أشكاله، وبين الحب الروحي. الحب الجسدي تعلُّق نفس بنفس،
هذا مآله للموت؛ والحب الروحي تعلُّق نفسين بالمسيح، وهذه هي الحياة الأبدية،
والجسد الواحد. وهذا هو الذي حدث لَمَّا أُظهِرَت الحياة الأبدية التي كانت عند
الآب، فقد أُظهِرَت المحبة التي تجمع بين الذين قبلوها، فصارت الشركة مع الله ومع
ابنه يسوع المسيح، وصار الفرح الكامل.

وهكذا
كان بظهور الحياة الأبدية، ظهور الشركة مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح؛ لأن بظهورها
كان ظهور حب الآب الذي يجمع، والنور (معرفة الآب) الذي يوحِّد. وهذه هي النتيجة
المباشرة لاستعلان الآب بالابن: “وعرَّفتهم اسمك وسأُعرِّفهم، ليكون فيهم
الحب الذي أحببتني به، وأكون أنا فيهم
” (يو 26: 17)،” ليكون
الجميع واحداً، كما أنك أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك، ليكونوا هم أيضاً واحداً
فينا.”
(يو 21: 17)

هذا
هو “الاستعلان”الذي أتى به الابن من عند الآب، أي معرفة الآب في ذاته
ومحبته المنسكبة في الابن، وهذه هي الشركة التي يتكلَّم عنها القديس يوحنا التي
كانت لهم مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح، وسر الفرح الكامل. هذا طرحه المسيح على
الرسل، والرسل طرحوه بذات الحب وذات النور والمعرفة فينا لتكون لنا شركة معهم في
الآب وابنه يسوع المسيح، هذه التي طلبها المسيح من الآب في آخر لحظة من حياته على
الأرض: “ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به، وأكون أنا فيهم” (يو 26: 17)

فإنْ
انسكب حب الآب الذي يحب به الابن فينا، وصار المسيح الابن فينا، صرنا حتماً
وبالضرورة في اتحاد غير منفصم مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح.

من
هنا يجيء حل اللغز العجيب والمدهش في قول القديس يوحنا: “أيها الأحباء، الآن
نحن أولاد الله، ولم يُظهَر بعد ماذا سنكون. ولكن نعلم أنه إذا أُظْهِرَ نكون
مثله، لأننا سنراه كما هو
” (1يو 2: 3). لأنه إن كانت محبة الآب للابن قد
صارت فينا، وصار فينا المسيح الابن ذاته، فهل من شيء بعد لا يجعلنا مثله؟ فإن
كان هو موجوداً فينا، وحب الله الآب للابن فينا، فقد صرنا مثله. ولكن الآن ونحن
بالجسد يصعب أن نتصوَّر ذلك، ولكن هناك حيث لنا الخليقة الجديدة يكون فعلاً إذا
أُظهر المسيح “نكون مثله، لأننا سنراه كما هو فينا”!!!

ليس
هذا قول ادِّعاء من يوحنا الرسول، لأن في الحقيقة الابن هو الذي أخذ شكلنا وصار
مثلنا كإنسان بالجسد، فاغتنم الفرصة ليغيِّر شكلنا ومثالنا إلى شكله ومثاله بالروح
أي بالجسد الجديد، الخليقة الروحانية، الإنسانية الجديدة المخلوقة على صورة الله: “وتلبسوا
الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله (كالله) في البر وقداسة الحق” (أف 24: 4)،
“ولبستم الجديد الذي يتجدَّد للمعرفة حسب صورة خالقه” (كو 10: 3)

من
هنا يجيء القول المتقن أننا بالنهاية: “سنكون مثله، لأننا سنراه كما هو فينا”!!!

هذا
الأمر يعالجه القديس بولس على درجات، إذ يلاحظ القارئ في قول الآية: “وتلبسوا
الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله (كالله) في البر وقداسة الحق” (أف 24: 4)،
أن هذا يتم بالميلاد الثاني من الماء والروح المحسوب أنه “ميلاد من فوق”، للذين
“وُلِدوا من الله”. هذا يؤكِّد لنا أننا الآن بحق معموديتنا نحمل هذا الإنسان
الجديد المحسوب أنه خليقة جديدة روحانية بحسب الله” في البر وقداسة
الحق”،
وهما الصفتان الأساسيتان لإمكانية اتفاق هذه الخليقة الجديدة مع
خالقها لتبلغ الاتحاد أو الشركة بالروح. ثم يعود القديس بولس ويؤكِّد أن الإنسان
الجديد هذا أو الخليقة الروحانية الجديدة فينا الآن إنما تتجدَّد بالمعرفة
(استعلان الله الآب) لتكون على صورة خالقها تمهيداً لبلوغ حالة الشركة مع
الآب والابن.

وهذه
الحقيقة العظمى أهملها العلماء والدارسون للأسف المرير. ونحن نتعجب لماذا نحتقر
عمل الله العظيم هذا كونه يُلبسنا الإنسان الجديد المخلوق على صورة الله في البر
والقداسة ليكون لنا الحق في حالة الشركة المجانية مع الله الآب وابنه يسوع المسيح.

ولكن إن اكتفينا بجسدنا المادي هذا الذي نعيش فيه، وأهملنا
خليقتنا الروحية الجديدة فينا التي نلناها بالمعمودية والمسحة ونفخة الروح القدس،
والتناول من الجسد والدم الأقدسين، والتي هي على صورة الله والمسيح في البر وقداسة
الحق؛ فنحن نكون حينئذ أشقى خليقة، ويكون المسيح قد تعب من أجلنا عبثاً.

والخطورة
في إهمالنا مواهب الخليقة الجديدة فينا أن ذلك يحرمنا من الشركة مع الآب والابن
يسوع المسيح، لأنه بدون الإنسان الجديد فينا لا يكون لنا علاقة حقيقية مع المسيح،
وبالتالي مع الآب. لأن الإيمان المسيحي لا يصدر من مركز الإنسان المادي أي العتيق
لأنه لا يستطيع. لأن فيما يقوله القديس بولس: “لأنك إن اعترفتَ بفمك بالرب
يسوع، وآمنتَ بقلبك أن الله أقامه من الأموات، خلَصْتَ” (رو 9: 10) فما معنى:
“إن آمنتَ بقلبك”؟ ما هو القلب؟ لأن قلب الإنسان هو مركز الحق والصدق والأمانة
والشرف في الإنسان، وليست هذه صفات الإنسان المادي، بل هي صفات الإنسان الروحي
فينا.

فالإيمان
هو عمل الإنسان الجديد، لأن الإيمان بالمسيح لا يخص ولا يمت للإنسان الترابي بصلة.
فالخليقة الجديدة هي خليقة المسيح وعلى صورته، وهي التي تعبِّر عن إيمانها وحبها
وصلتها بالمسيح خالقها، ويكون إيمانها صحيحاً وواقعياً. أما الاعتراف بالفم فهو من
نصيب الحواس: “الذي كان من البدء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا،
الذي شاهدناه، ولمسته أيدينا، من جهة كلمة الحياة” (1يو 1:
1). وهكذا يأتي الاعتراف بالفم من نصيب الحواس والعقل.

ولكن
المهم عندنا أن الإيمان المسيحي مصدره الإنسان الجديد المخلوق على صورة الله في
القداسة والحق، لذلك يُحسب الإيمان للإنسان أنه عمل كبير جداً وهام للغاية: “إن
آمنتِ ترين مجد الله” (يو 40: 11)

فإذا
وضعنا الإيمان بالمسيح في وضعه الصحيح على أنه تعبير الإنسان الجديد فينا المولود
من الله على صورته في القداسة والحق، يعبِّر به عن صلة حب وقُرْبَى واتحاد وشركة،
هذا يكون هو الإيمان الحقيقي الذي يورِّث الحياة الأبدية، بل هو يكون منطوقاً من
واقع الإحساس بالوجود في الحياة الأبدية في حالة شركة مع الآب وابنه يسوع المسيح،
حيث يكون لنا الفرح الكامل، الضائع منَّا الآن بسبب عدم صحة إيماننا بالمسيح، إذ
اقتصر على إدراك العقل لصفات الابن اللاهوتية دون إحساس واقعي وشركة أو محبة صادقة.

وكان
من نتيجة عدم صحة إيماننا بالمسيح على مستواه الروحي من واقع إحساس الإنسان الجديد
المولود من الله، أننا لازلنا نشعر أننا خطاة وأننا نعيش في إنساننا العتيق غرباء
عن الله والمسيح، في حين أن أهم صفة للإنسان الجديد المولود من الله أنه لا يخطئ:

+
“نعلم أن كل مَنْ وُلِد من الله لا يخطئ، بل المولود من الله يحفظ نفسه،
والشرير لا يمَسُّه. نعلم أننا نحن من الله، والعالم كله قد وُضِعَ في الشرير.
ونعلم أن ابن الله قد جاء وأعطانا بصيرة لنعرف الحق. ونحن في الحق في ابنه يسوع
المسيح. هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية” (1يو 18: 520)

لقد
ضاع منَّا الإحساس أننا مولودون من الله، وأننا مسلَّحون ببر المسيح، والشرير لا
يمسُّنا، وأن لنا بصيرة لنعرف الحق، وأننا في الحق وفي الحياة الأبدية لأننا في
المسيح يسوع نعيش، هذا كله ضاع منَّا بسبب ضياع مفهوم أن الإيمان بالمسيح هو عمل
الإنسان الجديد المولود من الروح، وأن الإيمان الحقيقي هو حالة حب واتصال بالمسيح،
وليس مجرد تصوُّر عقلي نحفظه بفمنا ونتلوه بلساننا، ووعينا الروحي غائب، وحقيقة
المسيح غائبة عنا.

أما
قوله في نهاية الأصحاح الخامس أننا: “نعلم أن كل مَنْ وُلِد من الله
لا يخطئ، بل المولود من الله يحفظ نفسه (أو هو محفوظ بالروح)، والشرير
لا يمسُّه” (1يو 18: 5)؛ فهذا هو حال الإنسان الجديد فينا، لأنه خليقة
جديدة على صورة الله في القداسة والحق. وفي آية أخرى يقول إنه: “لا يفعل خطية،
لأن زرعه (زرع الله) يثبت فيه، ولا يستطيع أن يخطئ لأنه مولود من الله” (1يو
9: 3). فالخطية أصبحت من أعمال الإنسان العتيق، جسد الموت، وحتى هذه تحت الغفران
بالاعتراف. ولكن الذي يؤكِّد عليه القديس يوحنا أن المولود من الله لا يفعل
خطية، ولا يستطيع أن يخطئ
لأنه مولود من الله، بمعنى أنه كائن في الله، وزرع
الله أي روح الله فيه، وأيضاً كلمته أي المسيح: “إن كان المسيح فيكم فالجسد
ميت بسبب الخطية، وأما الروح (الإنسان الجديد) فحياة بسبب البر” (رو 10: 8)

وقول
القديس بولس: “أما البار فبالإيمان يحيا” (رو 17: 1)، هذا القول عند
القديس يوحنا له وزن عالٍ جداً، لأن مَنْ هو البار؟ البار هو الذي نال برَّ المسيح
بالإيمان بموت المسيح وقيامته من بين الأموات، كما يقول بولس الرسول مكمِّلاً
الآية السالفة: “لأن القلب يُؤمَن به للبر، والفم يُعتَرف به للخلاص”
(رو 10: 10). فالذي يؤمن بقيامة المسيح ينال بر المسيح: “الذي أُسلِم من أجل
خطايانا وأُقيم لأجل تبريرنا” (رو 25: 4)، لأن المسيح لما مات ومتنا معه
أُلغيت عنَّا عقوبة اللعنة والموت، ولما قام المسيح وهبنا برَّه الذاتي كمَنْ أطاع
أباه حتى الموت لحسابنا.

إذن،
فالبار الذي آمن بقيامة المسيح يحيا مع المسيح في برِّه، وهذه هي الشركة عند
القديس يوحنا، الشركة مع الآب وابنه يسوع المسيح مصدر كمال الفرح المسيحي.

فالحياة
ببرِّ الإيمان عند القديس بولس هي شركة الحياة مع الآب ومع المسيح ابنه عند القديس
يوحنا. ولكن الغريب في المقارنة هنا أن المصدر الأول الذي يشعل حياة بر الإيمان
عند القديس بولس هو “الإيمان”، ولكن مصدر الإشعال في شركة الحياة الأبدية عند
القديس يوحنا هو الاستعلان الإلهي المجاني: “الحياة أُظْهِرَت
“الحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهِرَت لنا” (1يو 2: 1).
فالله ظهر في الجسد، ووهب لنا الحياة الأبدية مجاناً!

وعند
القديس بولس كل مَنْ يؤمن يصير ابناً لله (غل 26: 3)، أما عند القديس يوحنا ف
“كل مَنْ يحب فقد وُلِد من الله” (1يو 7: 4)

ولكن
لا فرق، فالذي يؤمن يؤمن بإنسانه الجديد المولود من الله.

والذي
يحب يحب بإنسانه الجديد المولود من الله.

فكل
ما أتى به القديس يوحنا هو أنه جعل للمحبة قوة الإيمان. وهذا يجعلنا نختم بالقول
أن الإيمان هو فعل محبة. وإيماني بالمسيح يعني أني منعطف نحوه وممسك بحبه،
وبحبِّي للمسيح أثبت أني ابن الله حقاً:

+
“كل مَنْ يحب فقد وُلِد من الله” (1يو 7: 4)

+
“الآب نفسه يحبكم، لأنكم قد أحببتموني” (يو 27: 16)

+
“والذي يحبني يحبه أبي، وأنا أحبه، وأُظهِر له ذاتي” (يو 21: 14)

الحب
هنا عند القديس يوحنا يجيء في موضع الإيمان عند القديس بولس.

إذن،
فشهادة الإيمان بالمسيح لا تكفي!!! لابد من المحبة!!! “يا سمعان بن يونا: أتحبُّني؟..
ارْعَ غنمي” (يو 17: 21)

وبالنهاية
يتحقق لدى القارئ ما قلناه أولاً: إن الإيمان بالمسيح يُحتِّم علاقة شخصية بالمسيح.

والآن،
هل أنت مؤمن بالمسيح حقاً؟

(أكتوبر
1996)

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى