علم الاخرويات

الفصل السادس: موقف الله من الخطيئة



الفصل السادس: موقف الله من الخطيئة

الفصل
السادس: موقف الله من الخطيئة

الجزء
الثانى

ما
معنى الفداء؟


طالما أن الله محبة،

فلماذا
اضطر المسيح أن يقدّم نفسه ذبيحة فداء

 عن
خطايانا أمام الله الآب؟”.

 

أولاً:
نظرية موت المسيح كوفاء متطلبات العدل الإلهى:

 هذه
النظرية شاعت فى الغرب منذ أن أطلقها ” أنسلموس” أسقف كانتبرى (1033 –
1109)، ولكنها غريبة عن تراث الشرق المسيحى ولم تتسرب إليه إلا بطغيان التأثير
الغربى فى عهد الانحطاط.

 

بموجب
هذه النظرية:

1)
الخطيئة الجدّية وما تبعها من خطاي، ألحقت بالله إهانة لا تُحدّ (لأن الكائن الذى
وُجّهت إليه كائن لا يُحدّ) واستوجبت غضبه على الناس.

 

2)
كان لا بدّ، من أجل كفّ هذا الغضب أن تلبَّى متطلبات العدالة الإلهية، وذلك بتقديم
التعويض المناسب عن الإهانة اللاحقة بالعزة الإلهية.

 

3)
من هنا أنه كان لا بدّ أن تُقدّم إلى الله ضحية تتحمّل كل أوزار البشر وترضى
بموتها متطلبات العدالة الإلهية.

 

4)
ولم يكن ممكنا أن تكون هذه الضحية من البشر أنفسهم:

ا
– لأنهم كلهم خاطئون لا قيمة فدائية لموتهم الذى هو مجرّد العقاب الواجب على
خطاياهم. فى حين أن الضحية كان يجب أن تكون بريئة ليكون لموتها قيمة فدائية.

ب
– لأنهم محدودون وليس بإمكانهم بالتالى، ولو ماتوا كلهم، أن يعوضوا عن الإهانة
التى ألحقتها الخطيئة بالله، إذ هى إهانة لا محدودة كونها موجهة إلى الكائن اللا
محدود.

 

5)
هذه المعضلة حلّها التدبير الإلهى بتجسد ابن الله الوحيد وموته على الصليب:

ا
– فالضحية كانت كائنا بريئا من العيب، وبالتالى يمكن لموته الطوعى أن يُقبل كثمن
العفو عن الخطأة.

ب
– والضحية كانت كائنا لا محدودً، وبالتالى فإن موتها كان يوازى حجم الإهانة اللا
محدودة اللاحقة بالله.

 

ثانيا:
تقويم هذه النظرية:

 

هذه
النظرية الحقوقية للفداء التى سادت الفكر المسيحى لحقبة طويلة ولا تزال رواسبها
الشعورية واللاشعورية ممتدة إلى يومنا هذا تناقض جذريا الإعلان المحورى للإنجيل،
الذى يجعل منه بالفعل ” إنجيلاً” أى ” بُشْرَى”، وهو (أَنَّ
الله مَحَبَّة] (1 يوحنا 4: 8، 16].

 

وقد
كان لهذا آثارًا فادحة:

1-
فقد رسمت عن الله صورة رهيبة.

صوّرته
إلها ساديا يرتضى عذاب ابنه الوحيد وموته لا بلّ يمعن فى تعذيبه إخمادًا لغضبه.

فقد
قال اللاهوتى الكاثوليكى المعاصر الأب ” جان كردونيل” من عظة ألقاه، سنة
1660، الواعظ الشهير المطران ” بوسوّيه”:

“.
كان (الله) يخمد غضبه بتفريغه. كان يضرب ابنه البرئ، الذى كان يصارع غضب الله، هذا
ما كان يجرى على الصليب، إلى أن قرأ ابن الله فى عينى أبيه أن غضبه هدأ تمام، فرأى
أنه حان الوقت لكى يفارق العالم”؟؟؟؟..

ولا
عجب إذا رأينا الأب ” كاردونيل” ينعت هذا النصّ، مع أن المتلفظ به أحد
أقطاب الكنيسة الكاثوليكية فى القرن السابع عشر، بأنه


منفر ومعادٍ جذريا للمسيحية”.

هذ،
وفى أيامنا هذه، سمعت ذات يوم، فى البرنامج الدينى ” حول العالم” الذى
يُبث بالعربية على موجات راديو ” مونت كارلو” عظة تقول أن المسيح كان،
وهو على الصليب، يعانى، عدا الآلام الجسدية، آلاما مبرّحة أنزلتها به يد العدالة الإلهية
مستعيضة عن معاقبة الخطأة!!!.

تلك
الصورة أثارت اشمئزاز الكثيرين من اللاهوتيين.

وهى
تؤول إلى هذا الاعتقاد الغريب بأن الخلاص الذى كان الله يسعى إليه إنما كان
بالدرجة الأولى خلاص ذاته بتفريغه غضبه على ضحية بريئة!!!.

 2-
هذه الصورة الرهيبة أُتخذت تبريرًا لاستبداد المتسلطين

من
حكام ورجال دين، الذين تماهوا بها فى علاقتهم بالناس (من هنا محاكم التفتيش
والحروب الصليبية وما شابه ذلك).

كما
أنها أُتخِذت ذريعة لدعوة الناس إلى الخنوع (على مثال المسيح الضحية) أمام الظلم
والتعسف والاستغلال.

3-
كما أن هذه الصورة كانت منطلق دين إرهابى فُرض على الناس طيلة 600 سنة (من القرن
الرابع عشر حتى مطلع القرن العشرين) وقد بنى على إذكاء الشعور بالذنب والتخويف من
العقاب الأبدى، وبالتالى كان على نقيض البُشرى الإنجيلية، بُشرى الخلاص والتحرّر
والفداء.

 

ويرى
اليوم مؤرخون مسيحيون أمثال
Guillemin
& Delumeau
، أن هذه النظرية
فى تعليل موت المسيح وما نتج عنه، كانت من الأسباب الرئيسية لانحسار المسيحية
Dechristianisation فى الغرب فى العصر الحديث.

 

ثالثا:
لماذا مات المسيح؟ قراءة تاريخية للصلب:

 من
مساوئ النظرية التى استعرضناه، أنها تطمس الوجه التاريخى لحياة المسيح، إذ أنها
تهمل الرسالة النبوية التى أدّاها فى حياته البشرية، والتى لا تُعتبر، فى هذا
المنظار، سوى الذريعة التى كان لا بدّ منها كى يبلغ مأربه الأساسى، أعنى الموت
التكفيرى.

 

والحال
أن من يطلع بإمعان على سيرة يسوع الأرضية يرى بجلاء أن موته لم يكن تنفيذًا لنوع
من العقد الضمنى القائم بينه وبين الآب، بأن يقدّم نفسه فى وقت محدّد ذبيحة عن
خطأيا البشر، بلّ أن هذا الموت كان النتيجة الطبيعية، فى أوضاع تاريخية معينة،
لمجمل المسار النبوى الذى سلكه يسوع فى حياته محققا به إرادة الله ومؤلبا عليه، من
جراء ذلك، قوى الظلمة.

 

تارخي،
لماذا صُلب المسيح؟ لأنه تصدّى طيلة حياته بجرأة لم تعرف التخاذل، للحكم الدينى
التسلطى القائم فى شعبه.

 

1-
من كان يمثّل هذا الحكم:

 هذا
الحكم كان يمثله:

**
من جهة رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب (أى الوجهاء) وهم أصحاب السلطة السياسية والاقتصادية.

**
من جهة أخرى المتبة (أى الفقهاء واللاهوتيون) والفريسيون (وهم فريق من الأتقياء
المتشدّدين، كان ينتمتى إليه كثيرون من الكتبة)، وهم أصحاب السلطة المعنوية
والدينية [..عَلَى كُرْسِيِّ مُوسَى جَلَسَ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ) (متى
23: 2].

وكان
هؤلاء وأولئك يتخذون من الله ذريعة لتأكيد سلطتهم على حساب سحق الشعب وإذلاله:


فرؤساء الكهنة وشيوخ الشعب كانوا يحتقرون الشعب لأنه كان بسواده الأعظم فقيرً،
فكانوا يرون فى غناهم علامة على رضى الله عليهم ويرون فى فقر الشعب لعنة من الله.
وكان رؤساء الكهنة يتوافقون مع أغنياء التجار للإثراء على حساب الشعب من خلال
تجارة الهيكل، وكان خدّام رؤساء الكهنة يضربون الشعب، وكانت عائلات رؤساء الكهنة
تحتكر وظائف الهيكل. وكان رؤساء الكهنة يستفيدون من فتوى تسمح لمن شاء بالتملص من
واجب مساعدة الأهل المسنّين شرط أن يقدّم للهيكل جزءًا رمزيا منها.

 


أما الكتبة والفريسيون فقد نصبوا أنفسهم حماة للشريعة وعقدوا فرائضها إلى حدّ أنه
أصبح شبه مستحيل على عامة الناس أن يعرفوا دقائقها وأن يوفقوا بين تنفيذ أوامرها
الكثيرة وبين انهماكهم فى أعمالهم اليومية وتحصيل رزقهم. من هنا أن الكتبة والفريسيين
كانوا يحتقرون عامة الناس: (وَلَكِنَّ هَذَا اَلشَّعْبَ اَلَّذِي لاَ يَفْهَمُ
اَلنَّامُوسَ هُوَ مَلْعُونٌ) (يوحنا 7: 49).

ويصنفونهم
فى مصفّ ” الخطاة” (وكان معظم هؤلاء ” الخطاة” من الفقراء
الذين لم تكن تسمح لهم ظروف حياتهم القاسية لا بدراسة الشريعة ولا بتنفيذها
بحذافيرها).

بالإضافة
إلى ذلك، كانوا يؤولون الشريعة بحيث تصبح للناس عيئا وقيدًا: (فَإِنَّهُمْ
يَحْزِمُونَ أَحْمَالاً ثَقِيلَةً عَسِرَةَ الْحَمْلِ وَيَضَعُونَهَا عَلَى
أَكْتَافِ النَّاسِ وَهُمْ لاَ يُرِيدُونَ أَنْ يُحَرِّكُوهَا بِإِصْبِعِهِمْ) (متى
23: 4].

فيُشبعون
بذلك، من حيث يشعرون ولايشعرون، شهوتهم للحكم والتسلّط.

من
هنا تفسيرهم لوصية السبت، التى وُضعت أصلاً رأفة بالناس، تفسيرًا ساحقا يمنع من
معالجة المريض فى ذلك اليوم إلا إذا كان مشرفا على الموت (ثُمَّ دَخَلَ أَيْضاً
إِلَى اَلْمَجْمَعِ وَكَانَ هُنَاكَ رَجُلٌ يَدُهُ يَابِسَةٌ. فَصَارُوا
يُرَاقِبُونَهُ: هَلْ يَشْفِيهِ فِي اَلسَّبْتِ؟ لِكَيْ يَشْتَكُوا عَلَيْهِ.
فَقَالَ لِلرَّجُلِ اَلَّذِي لَهُ اَلْيَدُ اَلْيَابِسَةُ: قُمْ فِي اَلْوَسَطِ!
ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: هَلْ يَحِلُّ فِي اَلسَّبْتِ فِعْلُ اَلْخَيْرِ وفِعْلُ
اَلشَّرِّ؟ تَخْلِيصُ نَفْسٍ وقَتْلٌ؟.فَسَكَتُوا. فَنَظَرَ حَوْلَهُ إِلَيْهِمْ
بِغَضَبٍ حَزِيناً عَلَى غِلاَظَةِ قُلُوبِهِمْ وَقَالَ لِلرَّجُلِ: مُدَّ يَدَكَ.
فَمَدَّهَا فَعَادَتْ يَدُهُ صَحِيحَةً كَالأُخْرَى. فَخَرَجَ اَلْفَرِّيسِيُّونَ لِلْوَقْتِ
مَعَ اَلْهِيرُودُسِيِّينَ وَتَشَاوَرُوا عَلَيْهِ لِكَيْ يُهْلِكُوهُ) (مرقس 3:
1- 6).

ويمنع
جائعا من اقتلاع بعض سنابل القمح فى ذلك اليوم ومن فركها بين يديه إشباعا لجوعه
(وَاِجْتَازَ فِي اَلسَّبْتِ بَيْنَ اَلزُّرُوعِ فَابْتَدَأَ تَلاَمِيذُهُ يَقْطِفُونَ
اَلسَّنَابِلَ وَهُمْ سَائِرُونَ. فَقَالَ لَهُ اَلْفَرِّيسِيُّونَ: اُنْظُرْ.
لِمَاذَا يَفْعَلُونَ فِي اَلسَّبْتِ مَا لاَ يَحِلُّ؟ فَقَالَ لَهُمْ: أَمَا
قَرَأْتُمْ قَطُّ مَا فَعَلَهُ دَاوُدُ حِينَ اِحْتَاجَ وَجَاعَ هُوَ وَاَلَّذِينَ
مَعَهُ كَيْفَ دَخَلَ بَيْتَ اَللَّهِ فِي أَيَّامِ أَبِيَاثَارَ رَئِيسِ
اَلْكَهَنَةِ وَأَكَلَ خُبْزَ اَلتَّقْدِمَةِ اَلَّذِي لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ إلاَّ
لِلْكَهَنَةِ وَأَعْطَى اَلَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ أَيْضاً؟ ثُمَّ قَالَ لَهُمُ:
اَلسَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ اَلإِنْسَانِ لاَ اَلإِنْسَانُ لأَجْلِ
اَلسَّبْتِ. إِذاً اِبْنُ اَلإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ اَلسَّبْتِ أَيْضاً) (مرقس 2:
23- 28].

 

2-
الخيار الذى اعتمده يسوع حيال تسلّط رؤساء شعبه:

 

حيال
هذا التسلّط الدينى – الذى هو أبشع أنواع التسلّط لأنه يتخذ من الله تبريرًا
وتغطية له – كان ليسوع خيارات ثلاثة ممكنة:

أ
– أن ينصاع للأمر الواقع حفظا على سلامته.

ولكن
هذا الخيار كان بمثابة تواطؤ مع الظلم والاستبدار وبالتالى خيانة لرسالته
الخلاصية.

 

ب
– أن يسعى إلى الاستيلاء على الحكم الدينى، فيزيح المتنفذين الدينيين من موقع
السلطة ويحتل مكانهم فيحكم بدوره باسم الله ويأتى حكمه أكثر عدالة ورأفة.

ولكن
هذا الخيار كان يعنى أن يسوع المسيح تبنّى منطق الحكم الدينى القائم فى عهده وإتخذ
من الله ذريعة لفرض حكمه على الناس، وأنه بالتالى رضخ أمام متطلبات شهوة الحكم
وأعطاها تغطية إلهية.

تلك
هى التجربة التى سقط فيها إيليا النبى على جبل الكرمل عند ما أراد أن يفرض ذاته
على الملك والشعب عبر فرضه الله عليهم بقوة النار، مما أدى به إلى ارتكاب مجزرة
بحق مئات من كهنة البعل، فتلقّى من الله بعد ذلك درسا معبرًا حين تراءى له الله
على جبل حوريب لا من خلال الريح ولا من خلال الزلزلة ولا من خلال النار، بلّ من
خلال نسيم لطيف يكاد لا يُسمع صوته.

 

هذه
التجربة رفضها يسوع رفضا قاطعا فى بداية رسالته فى تجربة الشيطان الثالثة فى
البرية:

(ثُمَّ
أَخَذَهُ أَيْضاً إِبْلِيسُ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ جِدّاً وَأَرَاهُ جَمِيعَ
مَمَالِكِ الْعَالَمِ وَمَجْدَهَا وَقَالَ لَهُ: أُعْطِيكَ هَذِهِ جَمِيعَهَا إِنْ
خَرَرْتَ وَسَجَدْتَ لِي. حِينَئِذٍ قَالَ لَهُ يَسُوعُ: إذْهَبْ يَا شَيْطَانُ!
لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلَهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ
تَعْبُدُ)(متى 4: 8 -10].

وكافحها
وصدّها كلّ ما أعادت الكرة فى حياته.

 

ج
– لم يبق بالتالى أمام يسوع سوى خيار واحد ينسجم مع أمانته للإله الحق، الإله
المختلف عن أهواء البشر.

وهو
أن يتصدّى دون هوادة لانحرافات الحكم الدينى ولكن دون أن يعتمد فى هذا التصدّى
منطق الحكم الدينى الذى كان يقاومه وأساليبه.

لذا
نراه، باسم الله وتمثلاً بمواقفه:

**
يتصدّى لاستعمال الهيكل مكانا للمتاجرة والاستغلال (طرد الباعة من الهيكل).

**
يشهّر بتأويل الشريعة وفقا للمصلح الجشعة.

**
ينادى بالطوبى للفقراء وبالويل للأغنياء.

**
يعاشر ” الخطأة” ويؤاكلهم.

**
يجعل همّه شفاء المرضى وأصحاب العاهات، وهم المعتبرون من قِبَل القيّمين على الدين
معضوبا عليهم من الله (خاصة البرص منهم).

**
يشفى المرضى علنا يوم السبت.

 

ولكننا
نراه بآن يرفض رفضا باتا الفكرة الماسيانية المنتشرة فى عهده

(وهى
فكرة استلام المسيح الحكم بالقوة باسم الله).

لذا
يَمْتَنِع عن تسمية نفسه” مسيحا”، مَنْعا للالتباس،

ويُفَضِّل
أن يُسَمِّى نفسه ” ابن الإنسان”.

 

ولما
رأى أن الحركة الشعبية إلّتفت حوله فى الجليل كانت تدفعه إلى تسلّم السلطة:

(وَأَمَّا
يَسُوعُ فَإِذْ عَلِمَ أَنَّهُمْ مُزْمِعُونَ أَنْ يَأْتُوا وَيَخْتَطِفُوهُ
لِيَجْعَلُوهُ مَلِكاً اِنْصَرَفَ أَيْضاً إِلَى اَلْجَبَلِ وَحْدَهُ)(يوحنا 6:
15].

اعتزل
الشعب وركز رسالته على ” القطيع الصغير” من تلاميذه.

 

ولكن
ذلك لم يثنه عن قصده وهو التصدّى للتسلط الدينى المفسد لصورة الله والساحق
للإنسان، لا بلّ نراه يقرّر الابتعاد عن الجليل حيث صادف تأييدًا عارما لرسالته
ويصعد إلى أورشليم ليواجه الحكم الدينى فى عقر داره، وهو فى الطريق، يجتهد أن يكسب
تلاميذه لرؤياه، رؤيا الماسيانية الحقّة التى تقوم على قوة الحق لا على قوة السلاح
والخوارق،

التى
تجتذب الإنسان ولا تخضعه عنوة.

ونراه
يقاوم بعنف عودة تجربة الحكم على لسان بطرس.

 

إن
خيار يسوع هذ، خيار الصمود حتى النهاية فى مقاومة تشويه الحكم الدينى لله
وللإنسان، إنما دون اللجوء إلى وسائل هذا الحكم وأساليبه، كان لا بدّ أن يقود يسوع
إلى الموت، وفقا للحتميات النفسية والتاريخية السائدة آنذاك.

لم
يكن الصليب إذً، كما سبق وقلن، نتيجة ” عقد” قائم بين الله ومسيحه، عقد
لم تكن الظروف التاريخية سوى حجّة لتنفيذه، بلّ كان تتويج المسيرة النبوية التى
سلكها يسوع والتى شهد بها حتى الموت لحقيقة الله ولمقاصده التحريرية (الخلاصية)
حيال الإنسان.

فما
يجتذب وما يحرّك الرب يسوع ليس هو الموت، وفق أى اتفاق عقده مع الله، إنما هو
الحق، حتى الموت.

وقد
جاءت القيامة تعلن تأييد الله لتلك المسيرة ونصره لها عبر الفشل الظاهرى.

 

 

رابعا:
ما هى علاقة المسيح بخلاصنا؟:

قراءة
إيمانية للصليب

ولكن
معنى موت المسيح يتعدّى هذا البعد التاريخى الذى ذكرناه.

فقد
أدركت الحماعة المسيحية منذ البدء. على ضوء تعاليم السيد المسيح وبإلهام الروح
القدس، أن لموت المسيح بعدّا خلاصيا شاملاً يمتد إلى البشرية جمعاء وإلى كل فرد من
أفرادها فى كل زمان ومكان.

فما
هى طبيعة هذا البعد الخلاصى؟.

وبعبارة
أخرى:

ما
هى علاقة موت المسيح بخلاص الإنسان؟.

الجواب
الصحيح أن موت المسيح يخلصن،

لا
لكونه يفى عنّا دَيْنا تجاه الله الآب فقط.

بلّ
لكونه، كتتويج لحياة السيد المسيح كلها.

يكشف
حقيقة الله وحقيقة الإنسان.

ويُدخِل
الإنسان إلى علاقة صحيحة محْيِيَة بربّه..

 

هذا
ما يتّضح لنا إذا تأملنا فى النقاط التالية:

1-
مأساة الإنسان: الصراع بين لا محدودية الرغبة ومحدودية الوجود:

يوجد
الإنسان على الأرض ويفتح عينيه على الموجودات المحيطة به، فتوقظ رغائبه وتشدّه إلى
هذه الموجودات، فيندفع نحوها بملء جوارحه، ناشدًا فيها إرواء غليله وإشباع جوعه
إلى الطمأنينة والسعادة والانشراح والاكتمال.

ولكنه
يكتشف بخيبة ومرارة أن الموجودات كلها مقصّرة لا محالة عن تحقيق مأربه وأنها تعده
بالاكتمال المنشود ولكنها لا تفى بوعدها.

 

فلا
الطعام ولا الشراب ولا اللذات على أنواعه، ولا الجاه ولا النفوذ ولا المعرفة ولا
الفضيلة ولا الصداقة ولا الحب، لا شئ من كل ذلك يستطيع أن يروى غليل الإنسان.

فقد
وردت فى سفر الأمثال هذه الملاحظة:

(أَيْضاً
فِي اَلضِّحْكِ يَكْتَئِبُ اَلْقَلْبُ وَعَاقِبَةُ اَلْفَرَحِ حُزْنٌ) (أمثال 14:
13].

ووردت
هذه العبارة فى خدمة الجناز: ” أى نعيم فى الدنيا ثبت ولم يخالطه
حزن؟..”.

هكذا
يكتشف الإنسان أنه مهما نجح وتوفق فى مساعيه، فإنه فاشل لا محالة فى تحقيق أمانيه،
ذلك لأن ما بوسع الموجودات أن تمنحه إياه محدود حكم، فيما أن رغائب الإنسان لا
تُحصر ولا تُحدّ.

هذا
الفشل الذى تمنى به لا محالة رغائب الإنسان يبلغ ذروته بالموت، ذلك الموت الذى
يدرك الإنسان وحده – دون سائر المخلوقات الحية، لأنه بخلافها متميز عن الكون، يعى
الكون، ويعى ذاته ومصيره – أنه النهاية المحتومة لوجوده الأرضى، فيخيّم من جراء
ذلك على حياته كلها طيف ذلك الفشل الجذرى الذى ينتظره، ألا وهو انهيار كيانه وما
يرافق ذلك من انقطاع علاقته بالموجودات.

 

2-
نتيجة هذه المأساة: الوضع الإنسانى ” الساقط”:

فما
سر هذا التناقض المأساوى الذى يعانى منه الإنسان، ذلك الذى عبّر عنه الشاعر ”
لامرتين” ببيتين له خالدين: ” محدود بطبيعته، لا متناهٍ من حيث أمانيه،
الإنسان إله ساقط يتذكّر السماوات”.

 

الواقع
أن الله قد زرع فى قلب الإنسان رغبة لا متناهية توقظها الموجودات دون أن يكون
بوسعها إرواؤه، قاصدًا من وراء ذلك أن يتخذ من الموجودات لغة يخاطب بها قلب
الإنسان ويوجّهه إليه ويُشعره بأنه هو وحده قادر أن يلبّى الانتظار الذى توقظه فيه
الموجودات وأن يحقق أمانيه، وبأن تلك الأمانى إنما هى أعظم من الكون الذى يوقظها
لأنها تستهدف فى آخر المطاف سيد الكون وبارئه.

 

فى
هذا المنظار يصبح الموت، على قسوته ورهبته، ذلك المعبر الذى ينسلخ به الإنسان عن
الموجودات ليتسنّى له أن يحقق اللقاء التام والمباشر بقطب وجوده الحقيقى، الذى هو
أعظم من الموجودات قاطبة.

 

ولكن
الإنسان كثيرًا ما يسئ فهم مقصد الله هذ، فيتصوّر أن الله عدوّ له يتعمّد حجب
السعادة عنه لتحجيمه وإذلاله وتعذيبه، وأنه إنما يفعل ذلك ليستأثر لذاته بالسعادة
والاقتدار.

 

هكذا
تغيب عن الإنسان صورة الإله الحقيقى وتستَبْدَل بتلك الصورة المشوهة التى يسقطها
على الألوهة.

فتضطرب
من جرّاء ذلك علاقة الإنسان بالله، فإما يتمرّد عليه صراحة (وهو إذ ذاك يتمرّد
بالفعل على وهم من صنع خياله) وأنه يُبطن هذا التمرّد مُسَترًا إياه بخضوع عبودىّ
ذليل، برضوخ المغلوب على أمره لسلطة لا مناص له منه، ومُتخذًا من ذلك الإله
الممسوخ نموذجا يتماهى به فى علاقته بسواه من الناس.

 

هذه
العلاقة المشوهة بالله تنعكس على مجمل مواقف الإنسان من نفسه ومن الموجودات، فإذا
به، بدلاً أن يرى فى الله محطّ أمانيه ومحجّة مسيرته ومعنى وجوده وغاية هذا
الوجود، ينطوى على ذاته محاولاً محاولة المستميت أن يكتفى بما يستطيع أن يجنّبه من
متع ومسرّات.

 

وعوض
أن يرى فى الموجودات تعابير يخاطبه الله بها وكشوفات لله فى حياته وإشارات لما
أعدّه الله له مما يفوق التصوّر والوصف، وأن يتعامل معها بالتالى باحترام ورأفة وحنان
(خاصة مع تلك الكائنات البشرية أمثاله التى هى صورة حيّة لله)، فيتصل عبرها بالله
ويذوق بالتالى مسبقا شيئا من طعم اللقاء الموعود، نراه ينقضّ عليها بشراهة لا تعرف
حدًّ، موهما ذاته بأنه، على قدر ما يعبّ منه، يستطيع أن يملأ فراغه ويُشبع جوعه
الكيانىّ.

 

وعوض
أن يتخذها نوافذ يطّل منها على الله، يحوّلها إلى مرايا لا يشاهد فيها إلا صور
نهمه.

يتعامل
مع الموجودات كلها وكأنها أشياء لا مبرّر لوجودها سوى أن تستهلك وتمْتلك، يتناولها
كلها وكأنها وُجدت فقط لتملأ جوفه، ولسان حاله يقول:

(فَلْنَأْكُلْ
وَنَشْرَبْ لأَنَّنَا غَداً نَمُوتُ) (1 كورونثوس 15: 32).

هكذا
يوهِم نفسه أنه بلغ الإكتفاء الذاتى، ويخدّر جوعه اللامتناهى، يخترع لنفسه ألوهة
زائفة تقوم على ” النجاح والمال والشهوة” وعلى ” اقتناص
الملذّات” على أنواعها.

يتسلّط
على من كانوا أضعف منه ليخدع نفسه ويتعامى عن هزال كيانه ويوهم ذاته أنه مرجع ذاته
وسيّد مصيره.

 

ولكن
تهالكه هذا على التسلّط والتملّك والتنعّم يرتدّ عليه ويؤول به إلى عكس ما كان
يقصد.

ذلك
لأنه، على قدر إنغلاقه وإنطوائه على نفسه ومقتنياته – ولو توسعت باستمرار تلك
المقتنيات كما حصل لغنى المثل الإنجيلى الذى كان ينوى هدم إهراءاته وبناء أخرى
تستوعب المزيد من الغلات (لوقا 12: 16- 18] – فإنه لا يفعل شيئا سوى إحكام أسره
ضمن جدران محدوديته الخانقة.

 

وعلى
قدر استرساله فى رؤية الموجودات من زاوية نهمه وحسب، فإنه يحكم على نفسه بعزلة
مريرة قاتلة.

وكلّما
إزدادت وطاة هذه العزلة، إستمات المرء فى السعى النهم وراء الأشياء علّه ينجو من
وحتدته، ولكنه يبقى هكذا سجين دوّامة لا رجاء بالافلات منه، دوّامة هى ”
الموت” عينه بمعناه الروحى، اختناق إنسانية الإنسان، ضياع الرغبة المحورية
لديه بالاكتمال فى سراب الوهم، ذلك الموت الذى تحدّث عنه الرب يسوع المسيح بقوله:

(مَنْ
طَلَبَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ أَهْلَكَهَا يُحْيِيهَا) (لوقا
17: 33]. وأيضا:

[لأَنَّهُ
مَاذَا يَنْتَفِعُ اَلإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ اَلْعَالَمَ كُلَّهُ وَأَهْلَكَ
نَفْسَهُ وخَسِرَهَا؟](لوقا 9: 25].

لا
بلّ إن الموت الجسدى يصبح، فى هذا المنظار، قدرًا مرعبا لأنه يفقد أفقه ورجاءه.

فالإنسان
الذى يستميت فى محاولة الاكتفاء بذاته والتشبث بالموجودات كغاية لوجوده، يشعر بأنه
لن يبقى له شئ سوى العدم إذا انتزع منه الموت ذاته والموجودات التى إقتناها:

(فَقَالَ
لَهُ اَللهُ: يَا غَبِيُّ هَذِهِ اَللَّيْلَةَ تُطْلَبُ نَفْسُكَ مِنْكَ فَهَذِهِ
اَلَّتِي أَعْدَدْتَهَا لِمَنْ تَكُونُ؟ هَكَذَا اَلَّذِي يَكْنِزُ لِنَفْسِهِ
وَلَيْسَ هُوَ غَنِيّاً لِلَّهِ) (لوقا 12: 20، 21].

 

ذلك
هو ” الوضع الساقط” الذى يعانى منه الإنسان.

تلك
هى ” خطيئته الأصلية”، أى الأساسية، التى تنبع منها سائر الخطاي، والتى
قال عنها الرسول أن:

(لأَنَّ
أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ وَأَمَّا هِبَةُ اَللهِ فَهِيَ حَيَاةٌ
أَبَدِيَّةٌ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا) (رومية 6: 23].

إنها
استعباد الإنسان لقيود محدوديته، لأن آفاق تلك المحدودية قد غابت عنه وتناسى أنها
تطلّ على دعوة الله له ورغبته بلقائه وإدخاله إلى فرحه الأبدىّ.

فإذا
به يصبح أسيرًا لتلك المحدودية بسبب خوفه منها ومن الموت الذى يلخّصها ويجسدّها.

خوفه
من تلك المحدودية يحمله إلى ترسيخها وتحويلها إلى سجن له، مما يقوده إلى نمط عيش
أشبته ما يكون بالموت، مما يعطى الموت كل ” شوكته” فى حياته:

(أَمَّا
شَوْكَةُ الْمَوْتِ فَهِيَ الْخَطِيَّةُ) (1 كورونثوس 15: 65).

هذا
ما أشارت إليه رسالة العبرانيين لما ذكرت:

(وَيُعْتِقَ
أُولَئِكَ الَّذِينَ خَوْفاً مِنَ الْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعاً كُلَّ حَيَاتِهِمْ
تَحْتَ الْعُبُودِيَّةِ) (عبرانيين 2: 15].

 

3-
نهج يسوع كان على نقيض هذا الوضع ” الساقط” وما موت يسوع سوى تتويج لهذا
النهج:

فرادة
يسوع أنه سلك على نقيض الوضع ” الساقط” الذى يتخبط فيه الإنسان.

لقد
شارك البشر تماما فى مأساتهم، مأساة التناقض بين لا محدودية الرغبة ومحدودية
الوجود، ولكنه لم يشاركهم فى الخطيئة التى تقودهم أليها هذه المأساة، خطيئة
التقوقع على الذات وإدعاء إلوهة زائفة يخدعون بها أنفسهم ويتعامون بآن معا عن
محدوديتهم بها لتجاوز هذه المحدودية، ألا وهو الانفتأح الكلّى إلى الله.

 

لقد
كان يسوع، من حيث بنوّته الأزلية، معادلاً لله، ولكنه لم يشأ أن يتخذ من هذه
المأساة ذريعة ليحيا إنسانيته وكان بوسعها أن تكتفى بذاتها وتتنكّر لمحدوديتها
وتستغنى عن الله.

بعبارة
أخرى، لم يشأ أن يتصرّف وكأنه إنسان يملك الألوهة كما يتشبث البخيل بثروته.

بهذا
المعنى كتب الرسول بولس عنه:

[الَّذِي
إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اَللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً
لِلَّهِ) (فيليبى 2: 6].

هذه
الاكتفائية التى رفضها المسيح لم تكن، لتتنافى مع حقيقة الطبيعة البشرية وحسب،
التى اتخذها المسيح كما هى لا كمجرّد صورة ومظهر، بلّ إنها ليست إكتفائية بلّ
تواصل، عطاءً كلّيا وانفتاحا وتقبلاً كاملين فى ” حركة الحب الأبدية”
التى تجمع أقانيم الثالوث.

 

البنوّة
الأزلية التى للمسيح، بصفته ” الكلمة” الذى كان منذ البدء ” نحو
الله” (تلك هى الترجمة الدقيقة للعبارة اليونانية الواردة فى يوحنّا 1: 1
والتى تعَرّب عادة ” عند الله”)، أى متجهًا بكل كيانه إلى الآب، شاء أن
يحياها فى الوضع البشرى الذى اتخذه، انفتاحا كاملاً إلى الله، فقرًا كليا إليه،
اعتمادًا عليه دون سواه من أجل تحقيق معنى حياته وأمنيتة وجوده.

 

هذه
الثقة الكاملة، العارمة بالله، النابعة من إلفة حميمة بين يسوع وبين الآب، هذه
الثقة التامة بأن الله وحده قادر أن يلبّى عطش الإنسان المحورى إلى السعادة
والاكتمال والخلود، هى التى أعطت يسوع القدرة على رفض كل الأصنام التى ينصبها
البشر فيتعبدون من خلالها لذواتهم ويتنكّرون لمحدوديتهم، وينسون الله الذى هو وحده
قادر أن يحرّرهم من وطاة هذه المحدودية.

 

من
هنا أن نهج حياته كلّها اتصف بالإخلاص الكامل لله كما عبّرت الرسالة إلى
العبرانيين بقولها:

(لِذَلِكَ
عِنْدَ دُخُولِهِ (المسيح) إِلَى الْعَالَمِ يَقُولُ:

ذَبِيحَةً
وَقُرْبَاناً لَمْ تُرِدْ،

وَلَكِنْ
هَيَّأْتَ لِي جَسَداً.

بِمُحْرَقَاتٍ
وَذَبَائِحَ لِلْخَطِيَّةِ لَمْ تُسَرَّ.

ثُمَّ
قُلْتُ: هَئَنَذَا أَجِيءُ. فِي دَرْجِ الْكِتَابِ مَكْتُوبٌ عَنِّي، لأَفْعَلَ
مَشِيئَتَكَ يَا أَللهُ) (عبرانيين 10: 5 – 7].

هذا
الإخلاص الكامل لله والانفتاح الكلّى إليه ونبذ كل اكتفاء على الذات يحُول بين
الإنسان وبينه، عاشه يسوع فى كل ظروف حياته الأرضية ومراحلها:

أ
– فقد رفض سراب التملك الذى يوهم المرء نفسه بواسطته أنه أصبح مكتفيا بذاته،
مطمئن، آمنا على مصيره، سيدًا مطلقا لحياته

(”
الغنىّ”، لغة، هو من استغنى أى اكتفى بذاته).

لذا
نراه حرًّا من كل تملّك، لا وجود لعائق يقيد انطلاقه نحو الله ومشاركته للناس:

(فَقَالَ
لَهُ يَسُوعُ: لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ
وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ) (متى 8: 20].

 

ب
– رفض كذلك سراب التسلّط الذى، خاصة إذا إتّخذ من الله ذريعة له، يوهم الإنسان
بأنه تغلّب على محدوديته بسؤدده على من هم أضعف منه، وبأنه أصبح ” ظل الله
على الأرض”، سيدًا لمصيره ومُهيمنا على مصائر العباد.

لقد
رفض يسوع، كما رأين، أن يتذرّع بالله ليفرض على الناس سلطته وحكمه، فيبنى لنفسه
إلوهة زائفة تتستر بالله فى الظاهر ولكنّها تتنكّر له بالفعل إذ تتجاسر على
مصادرته واحتلال مكانه.

لذا
نراه حريصا على بث رسالته بقوة الحق والاقناع وحده، عارى اليدين من كل سطوة مسلّحة
وزعامة جماهيرية وأساليب سحرية يفتن بها الناس.

 

ج
– وبسسب إخلاصه الكامل لله، كانت حياته متجهة بكليته، دون تحفّظ ورجعة، نحو
الآخرين، فكان يجد فى خدمتهم فرحة وتحقيق ذاته.

وقد
لخص سفر أعمال الرسل بحق حياة يسوع بقوله على لسان بطرس:

(يَسُوعُ
الَّذِي مِنَ النَّاصِرَةِ كَيْفَ مَسَحَهُ اللهُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ
وَالْقُوَّةِ ‏الَّذِي جَالَ يَصْنَعُ خَيْراً وَيَشْفِي جَمِيعَ الْمُتَسَلِّطِ
عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ لأَنَّ اللهَ ‏كَانَ مَعَهُ. وَنَحْنُ شُهُودٌ بِكُلِّ مَا
فَعَلَ فِي كُورَةِ الْيَهُودِيَّةِ وَفِي ‏أُورُشَلِيمَ. الَّذِي أَيْضاً قَتَلُوهُ
مُعَلِّقِينَ إِيَّاهُ عَلَى خَشَبَةٍ.‏) (اعمال 10: 38، 39].

وقد
قال عنه إنجيل متى:

(وَكَانَ
يَسُوعُ يَطُوفُ كُلَّ اَلْجَلِيلِ يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهِمْ وَيَكْرِزُ
بِبِشَارَةِ اَلْمَلَكُوتِ وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضَعْفٍ فِي
اَلشَّعْبِ)(متى 4: 23].

وأيضا:

(وَكَانَ
يَسُوعُ يَطُوفُ اَلْمُدُنَ كُلَّهَا وَاَلْقُرَى يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهَا
وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ اَلْمَلَكُوتِ وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضُعْفٍ فِي
اَلشَّعْبِ) (متى 9: 35].

وأيضا:

(وَلَمَّا
صَارَ اَلْمَسَاءُ قَدَّمُوا إِلَيْهِ مَجَانِينَ كَثِيرِينَ فَأَخْرَجَ
الأَرْوَاحَ بِكَلِمَةٍ وَجَمِيعَ اَلْمَرْضَى شَفَاهُمْ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ
بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ: هُوَ أَخَذَ أَسْقَامَنَا وَحَمَلَ أَمْرَاضَنَا) (متى
8: 16، 17].

وكم
من مرة ذكرت الأناجيل حنانه الفاعل على الناس ورأفته بمآسيهم، مثلاً:

(وَلَمَّا
رَأَى اَلْجُمُوعَ تَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ إِذْ كَانُوا مُنْزَعِجِينَ
وَمُنْطَرِحِينَ كَغَنَمٍ لاَ رَاعِيَ لَهَا) (متى 9: 36].

وأيضا:

(فَلَمَّا
خَرَجَ يَسُوعُ أَبْصَرَ جَمْعاً كَثِيراً فَتَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ وَشَفَى
مَرْضَاهُمْ) (متى 14: 14]. و(وَأَمَّا يَسُوعُ فَدَعَا تَلاَمِيذَهُ وَقَالَ:
إِنِّي أُشْفِقُ عَلَى اَلْجَمْعِ لأَنَّ اَلآنَ لَهُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ
يَمْكُثُونَ مَعِي وَلَيْسَ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ. وَلَسْتُ أُرِيدُ أَنْ
أَصْرِفَهُمْ صَائِمِينَ لِئَلا يُخَوِّرُوا فِي اَلطَّرِيقِ) (متى 15: 32].
و(فَتَحَنَّنَ يَسُوعُ وَلَمَسَ أَعْيُنَهُمَا فَلِلْوَقْتِ أَبْصَرَتْ
أَعْيُنُهُمَا فَتَبِعَاهُ) (متى 20: 34].و

(إِنِّي
أُشْفِقُ عَلَى اَلْجَمْعِ لأَنَّ اَلآنَ لَهُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ يَمْكُثُونَ
مَعِي وَلَيْسَ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ) (مرقس 8: 2]. و(فَلَمَّا رَآهَا اَلرَّبُّ
تَحَنَّنَ عَلَيْهَا وَقَالَ لَهَا: لاَ تَبْكِي] (لوقا 7: 13].

 

د
– هذا الإخلاص الكلّى، الواحد الذى لا يتجزّ، لله وللبشر ” عياله”، الذى
عاشه يسوع، جعله يلتزم دون أى تحفظ وتهرّب قضية تحرير الناس من طغيان الحكم الدينى
الذى كان يسحقهم.

لذا
تصدّى بجرأة فائقة لممثلى هذا الحكم، من رؤساء كهنة وكتبة وفريسيين، وفضح سوء
رعايتهم لمن أؤتمنوا عليهم وتحميلهم للناس أحملاً ثقيلة بغية ترسيخ سطوتهم ونفوذهم
وإشباع شهوتهم إلى التسلّط والمجد الباطل، ونادى بالقول والفعل أن الله يريد رحمة
لا ذبيحة، وأعلن بالممارسة أن الشريعة، التى كان يستمتد منها الرؤساء نفوذهم،
وُجدت فى الأصل من أجل الإنسان وليس الإنسان من أجل الشريعة.

وفى
تلك المواجهة القاسية لرؤساء شعبه، لم يشأ يسوع أن يضع ثقته فى زعامة يمنحها له
البشر وفى قوة مسلّحة يجابه بها خصومه، بلّ وضع ثقته كلها بالله وحده وذهب إلى
أعدائه فى عقر دارهم أورشليم، يواجههم بسلاح الله وحده الذى هو سلاح الحق.

وقد
كان عارفا أنه سائر إلى الموت، ولكنه تقبل الموت، لا حبا فى الموت بلّ كتعبير أسمى
عن ثقته بالله، وإعراضه عن كل وسيلة للمقاومة من أجل أن تُحجب حقيقة الله، ويقينه
بأن الله قادر على إنقاذه حتى ولو اجتاز جحيم الموت، ولسان حاله يردّد مع كاتب
المزمور 23:

(أَيْضاً
إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ اَلْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرّاً لأَنَّكَ أَنْتَ
مَعِي. عَصَاكَ وَعُكَّازُكَ هُمَا يُعَزِّيَانِنِي) (مزمور 23: 4].

 

ه-
هذه الثقة الكاملة بالله هى التى سمحت ليسوع أن ينتصر على التجربة الأخيرة التى
راودته فى بستان حسثيمانى (وقد كانت بالفعل تكرارًا لتلك التى راودته فى بدء حياته
التبشيرية)، ألا وهى أن يطلب من الله أن يتدخّل فى مصيره فيعطيه مناعة إلهية ضد
مكائد خصومه ويجعله فوق نواميس الطبيعة والتاريخ التى كانت تحتّم موته، وبعبارة
أخرى أن تمنحه ألوهة زائفة تحجب حقيقة الله كإله مختلف عن رغائب الإنسان، وحقيقة
الإنسان ككائن محدود لا يكتمل إلا بالله.

فكان
الصراع النفسى والروحى العنيف والعرق المتصبب كقطرات الدم وهتاف يسوع:

(ثُمَّ
تَقَدَّمَ قَلِيلاً وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ وَكَانَ يُصَلِّي قَائِلاً: يَا
أَبَتَاهُ إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هَذِهِ اَلْكَأْسُ وَلَكِنْ لَيْسَ
كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ) (متى 26: 39].

عبر
هذا الصراع ترسّخ يسوع فى النهج الذى بقى أمينا له طيلة حياته، رغم التجارب التى
واجهه، ألا وهو خط التعرّى الكامل أمام الله والتسليم الكلّى إليه والانتظار منه،
ومنه وحده، تحقيق رغبة الإنسان فى الاكتمال والخلود، إنما بطريقة تفوق كل تصوّرات
البشر.

لقد
كان صراع جسثيمانى محطة حاسمة فى تحقيق المسيح لبنوّته الأزلية عبر البشرية
الترابية المائتة التى إتخذّها.

وقد
قالت الرسالة إلى العبرانيين بهذا الشأن:

(مَعَ
كَوْنِهِ اِبْناً تَعَلَّمَ الطَّاعَةَ مِمَّا تَأَلَّمَ بِهِ) (عبرانيين 5: 8].
و- وقد بلغت هذه المسيرة تمامها وذروتها على الصليب.

فقد
اختبر يسوع، فى ساعات الظلمة تلك، أكثر مما فى أى وقت مضى، اختبر فى جسده الذى كان
يعانى سكرات موت رهيب وفى نفسه المكتنفة بمشاعر العزلة والفشل، تمايز الله الجذرى
عن تصورات البشر وأمانيهم، وقد تّرجم ذلك بشعور مرير بالتخلّى الإلهى:

[إِلَهِي
إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟) (متى 27: 46).

ولكنه،
وبسبب من ذلك، اختبر أيض، أكثر مما فى أى وقت مضى، التسليم الكلّى إلى هذا الإله
الآخر، الذى من حيث هو آخر هو وحده الإله الحقيقى المتميز عن تخيلات البشر، واختبر
الثقة التامة بأن هذا الإله وحده قادرأن يحقق ملء رغبة الإنسان بالطريقة التى
يعرفها ويشاؤها هو.

من
هنا تلك الصيحة الأخيرة التى أطلقها المصلوب قبل أن يلفظ الروح، أطلقها ”
بصوت عظيم” كما يقول الإنجيلى لوق، وكانه يلخّص ويتوّج مسيرة حياته كلّها
وتوجهها المخالف لمجمل وضعنا ” الساقط”، النازع إلى اكتفاء وهمىّ:

(وَنَادَى
يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: { يَا أَبَتَاهُ فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي }.
وَلَمَّا قَالَ هَذَا أَسْلَمَ اَلرُّوحَ) (لوقا 23: 46].

 

4-
القيامة أتت تصديقا لمنهج يسوع، وكشفت حقيقة الله والإنسان:

وقد
تقبّل الله تقدمة ابنه وتلقاه فى المجد وحقق رغبته الإنسانية فى الاكتمال والخلود.

تقبله،
لا بسبب الألم والموت (كما لو كان ألم الإنسان وموته يلذّان له)، بلّ بسبب الإخلاص
والتسليم اللذين بلغا ذروتهما عبر الألم والموت.

 

وقد
كانت قيامة يسوع العلامة الدامغة لهذا التقبل الإلهى له.

وكانت
التأكيد الثابت على أن نهجه إنما هو النهج الصحيح الذى يحرّر الإنسان من دوامة
وضعه ” الساقط” ويقوده إلى الحياة والاكتمال اللذين يتوق إليهما بملء
جوارحه.

 

وقد
أتت القيامة تعلن بوضح حقيقة الله وحقيقة الإنسان، هاتين الحقيقتين اللتين بقى
يسوع أمينا على الشهادة لهما بحياته وموته.

فقد
تبيّن بالقيامة:

أ
– أن الله ليس عدو الإنسان، وأنه، إن كان يوقظ فيه رغبة لا تستطيع موجودات الكون
أن تحققه، فإن ذلك ليس بقصد العبث بالإنسان (خلافا لاعتقاد سارتر بأن ”
الإنسان شهوة لا جدوى منها”)، بلّ لأنه أعدّ له نصيبا أفضل وهو أن يتحد
بخالقه وخالق الموجودات قاطبة ويشاركه فرحه الأبدى.

 

ب
– إن الإنسان ابن لله لا عبد له يتلاعب به الله كما يشاء، وأنه لا يحقق ذاته ويبلغ
غاية رغبته اللامتناهية إذا إنكفأ على ذاته ونصبها إلوهة زائفة يتنكّر بها
لمحدوديته، بلّ إذا عاش بنوّته الإلهية انفتاحا إلى الله أبيه وتسليما إليه
وتجاوزًا للنفس نحوه ورأفة وحنانا بخلائقه.

 

5-
القيامة وخلاصنا:

هكذا
تُوّج يسوع بالقيامة:

(لأَنَّهُ
لاَقَ بِذَاكَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ الْكُلُّ وَبِهِ الْكُلُّ، وَهُوَ آتٍ
بِأَبْنَاءٍ كَثِيرِينَ إِلَى الْمَجْدِ أَنْ يُكَمِّلَ رَئِيسَ خَلاَصِهِمْ
بِالآلاَمِ)(عبرانيين 2: 10].

يحرّرنا
من أوهامنا القاتلة ويكشف لنا حقيقة الله وحقيقة ذواتنا ويرشدنا إلى طريق الحياة.

ولكن
هذا الارشاد ليس مجرّد عملية ذهنية وقناعة فكرية، إنه تحوّل كيانىّ تتممه القيامة
فينا إنطلاقا من معموديتنا التى، من خلال عمل حسّىّ يكتنفه روح الله القدوس، تزرع
فينا طاقة المشاركة فى قيامة الرب يسوع المسيح:

(وَبِهِ
أيْضاً خُتِنْتُمْ خِتَاناً غَيْرَ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، بِخَلْعِ جِسْمِ خَطَايَا
الْبَشَرِيَّةِ، بِخِتَانِ الْمَسِيحِ.

 مَدْفُونِينَ
مَعَهُ فِي الْمَعْمُودِيَّةِ، الَّتِي فِيهَا أقِمْتُمْ أيْضاً مَعَهُ بِإِيمَانِ
عَمَلِ اللهِ، الَّذِي أقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ.

 وَإِذْ
كُنْتُمْ أمْوَاتاً فِي الْخَطَايَا وَغَلَفِ جَسَدِكُمْ، أحْيَاكُمْ مَعَهُ،
مُسَامِحاً لَكُمْ بِجَمِيعِ الْخَطَايَا،

إِذْ
مَحَا الصَّكَّ الَّذِي عَلَيْنَا فِي الْفَرَائِضِ، الَّذِي كَانَ ضِدّاً لَنَا،
وَقَدْ رَفَعَهُ مِنَ الْوَسَطِ مُسَمِّراً إيَّاهُ بِالصَّلِيبِ،

 إِذْ
جَرَّدَ الرِّيَاسَاتِ وَالسَّلاَطِينَ أشْهَرَهُمْ جِهَاراً، ظَافِراً بِهِمْ
فِيهِ.

 فَلاَ
يَحْكُمْ عَلَيْكُمْ أحَدٌ فِي أكْلٍ وشُرْبٍ، ومِنْ جِهَةِ عِيدٍ وهِلاَلٍ
وسَبْتٍ،

الَّتِي
هِيَ ظِلُّ الأُمُورِ الْعَتِيدَةِ، وَأَمَّا الْجَسَدُ فَلِلْمَسِيحِ] (كولوسى 2:
11- 17].

تلك
الطاقة التى يبقى عليها أن تتحوّل إلى فعل محيى عبر جهاد الإيمان الذى يمتدّ طيلة
حياتنا.

 

أ
– فالقيامة تنقل المسيح إلى داخلنا:

(مَعَ
الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا
أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ
ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي) (غلاطية 2: 20].

ذلك
أن المسيح الممجّد بالقيامة لم يعد محصورًا ضمن حدود الزمان والمكان بلّ أصبح
مالئا الكلّ يصوّره الروح القدس فى كلّ واحد منا:

(لأَنَّ
كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ)
(غلاطية 3: 27].

ومن
لبس المسيح فقد لبس الإنسانية الجديدة التى تجلّت فيه، وصارت له نظرة المسيح إلى الحياة،
إلى الله والإنسان، تلك النظرة التى تُحرّرنا من أوهامنا المميتة.

 

ب
– ثمّ أن مساهمتنا فى قيامة المسيح (المعمودية) تنقل إلين، فيما لا نزال فى جسدنا
الترابىّ ووضعنا المأساوى، طاقة الحياة التى انتصرت فى المسيح القائم من بين
الأموات، فنختبر فى ذواتنا تباشير تلك الحياة الظافرة، قوة وفرحا وتجدّدًا فى
كيانن، ونشعر مع الرسول بولس أنه:

(فَإِذْ
لَنَا رُوحُ الإِيمَانِ عَيْنُهُ، حَسَبَ الْمَكْتُوبِ { آمَنْتُ لِذَلِكَ
تَكَلَّمْتُ } – نَحْنُ أَيْضاً نُؤْمِنُ وَلِذَلِكَ نَتَكَلَّمُ أَيْضاً.

عَالِمِينَ
أَنَّ الَّذِي أَقَامَ الرَّبَّ يَسُوعَ سَيُقِيمُنَا نَحْنُ أَيْضاً بِيَسُوعَ،
وَيُحْضِرُنَا مَعَكُمْ.

لأَنَّ
جَمِيعَ الأَشْيَاءِ هِيَ مِنْ أَجْلِكُمْ، لِكَيْ تَكُونَ النِّعْمَةُ وَهِيَ
قَدْ كَثُرَتْ بِالأَكْثَرِينَ، تَزِيدُ الشُّكْرَ لِمَجْدِ اللهِ.

لِذَلِكَ
لاَ نَفْشَلُ. بَلْ وَإِنْ كَانَ إِنْسَانُنَا الْخَارِجُ يَفْنَى، فَالدَّاخِلُ
يَتَجَدَّدُ يَوْماً فَيَوْماً.

لأَنَّ
خِفَّةَ ضِيقَتِنَا الْوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ
مَجْدٍ أَبَدِيّاً.

وَنَحْنُ
غَيْرُ نَاظِرِينَ إِلَى الأَشْيَاءِ الَّتِي تُرَى، بَلْ إِلَى الَّتِي لاَ
تُرَى. لأَنَّ الَّتِي تُرَى وَقْتِيَّةٌ، وَأَمَّا الَّتِي لاَ تُرَى
فَأَبَدِيَّةٌ)(2 كورونثوس 4: 13- 18].

هذه
الثقة التى تنشأ فينا إن كنّا فعلاً قيميين، والنابعة من خبرتنا المعاشة لقوة
الحياة الجديدة فينا ولتصدّيها الفعّال لقوى الموت العاملة فى كيانن، هذه الثقة
تسلّحنتا ضتد الخوف من الموت وتعطينا القدرة على عدم الانقيتاد إلى هذا الخوف وإلى
ما يؤول إليه من إنطواء وتقوقع خانقين.

 

هكذا
يتحقق فينا ما تقوله الرسالة إلى العبرانيين من أن المسيح شاركنا فى الدم واللحم
ليعتق بموته الذين ظلوا طوال حياتهم فى العبودية:

(فَإِذْ
قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً
كَذَلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ
الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ،

 وَيُعْتِقَ
أُولَئِكَ الَّذِينَ خَوْفاً مِنَ الْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعاً كُلَّ حَيَاتِهِمْ
تَحْتَ الْعُبُودِيَّةِ) (عبرانيين 2: 14، 15].

هكذا
تتحرّر رغبتنا من عقالاته، وعوض أن تضيع فى سراب الأهام القاتلة، تنطلق فى رحاب
الله الذى يستطيع وحده أن يلبّى انتظارها اللامتناهى.

 

الخلاصة:

هكذا
فليس عقابا أنزله الله بابنه البرئ انتقاما من خطايا البشر.

إنما
الفداء عملية قامت بها المحبّة الإلهية لتصحيح المسيرة الإنسانية التى ضلّت الطريق
فأدارت الوجه لله، وتنكّرت لحقيقة الإنسان بآن، وضاعت فى متاهات الأوهام وسلكت
سلوكا انتحاريا.

لم
يكن الفداء عبارة عن ذبيحة ضحية بريئة يسترضى بها البشر إلها صار عدوًّا لهم.

بلّ
أن الله، الذى لم يكن بالحقيقة عدوًا للناس فى أى وقت من الأوقات، شاء أن ينحدر
إليهم فى شخص ابنه المتجسّد يسوع المسيح لكى يصالحهم بنفسه بعد أن اعتبروه زورًا
وبهتانا عدوًا لهم،

ويكشف
لهم، من خلال ذاك الذى أصبح أخا لهم، الله المتجسد يسوع المسيح،الإله الكامل
والإنسان الكامل، حقيقة الله وحقيقة الإنسان، ويجعل من مسيرة يسوع الأرضية، من
حياته وموته المتوجين بالقيامة، طريقا لهم يسلكونه ليتحرّروا من عداوتهم لأنفسهم
ويستعيدوا أصالتهم السليبة ويجدوا السبيل إليه، سبيل السعادة التى أعدّها لهم منذ
إنشاء العالم.

 

مختصر
الكلام أن الفداء ليس مقايضة حقوقية، إنما هومحبّة مجّانية كله، ومنسجم بالتالى
كلّيا مع طبيعة الله كما كُشفت لنا بيسوع المسيح الذى يمتلك تمام الطبيعة الإلهية
والطبيعة البشرية ويمثّل الرباط الكامل بين الله والإنسان. وهو التوحيد الحى
للإثنين فى شخصه.وهكذا فى شخصه يتحقق العهد كله. فإن الصلة بين الله والإنسان على
يد الكلمة المتجسد، هى صلة جوهرية ونهائية وغير قابلة للتخطى من أحد. فإن المسيح
ليس حامل رسالة، بل هو الله وهو الكلمة الناطقة والحية التى تكلم قلوب البشر.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى