علم الاخرويات

الفصل السادس: موقف الله من الخطيئة



الفصل السادس: موقف الله من الخطيئة

الفصل
السادس: موقف الله من الخطيئة

الجزء
الأول

هل
يغضب الله على الإنسان؟


نعلم أن الله عادل ومحب ورحوم.

مقالات ذات صلة

ولكن
هناك أناس يشدّدون على فكرة أن الله أراد إنزال غضبه على الإنسان،

لذلك
علينا نحن المؤمنين أن نتجنب غضب الله.

فما
هو موقف الإنسان الأرثوذكسى من هذه الأقوال؟”
.

 أولاً:
ارتباط صفات الله كلها بالمحبة:

إن
صفات الله المختلفة لا يمكن وضعها على قدم المساواة فى ما بينها وكأنها وجوه
مستقلّة متوازية فى أهميته، بل ينبغى فهمها على ضوء التأكيد المحورى الذى ورد فى
العهد الجديد بأن
(اللهَ مَحَبَّةٌ) (1 يوحنا 4:
16
)، مما يعنى
أن صفة الله الأساسية هى المحبة
.

أى
أنه يقتضى علينا أن نقول بأن عدل الله مثلاً إنما هو عدل المحبة، وعلمه علم
المحبة، وقدرته قدرة المحبة
.. إلخ.

ينتج
من ذلك أمران متكاملان:

1-
أن صفات الله تأخذ معناها الحقيقى من إضافتها إلى المحبة:

أ
– فقدرته قدرة المحبة:

 ولذا
لا يمكن أن تكون، بحال من الأحوال، تلك القدرة الطاغية الساحقة التى كثيرًا ما
نتصوّره، مسقطين على الله صورة نزواتنا ومخاوفن، متخيلين إياه وكأنه التحقيق غير
المحدود لتلك النزوات والموضوع اللامحدود لهذه المخاوف..

فى
حين أن القدرة الإلهية هى التى تمد المحبوب بالحياة دون أن تغتصبه وتستوعبه فى
ذاتها
.

ومن
أجمل الصور، باعتقادى، عن هذه القدرة التى تُحيى ولا تغتصب، تلك التى وردت بقلم
طاغور فى مقطع يمكن عنونته: ” من يفتح البرعم”:


ل، ليس من شأنك أن تفتّح براعم الزهر.

حرّك
البرعم، وإضربه، إنك لن تقتدر أن تصيّره زهرًا.

لمستك
يوسِخه: إنك تهشم كمّه، وتنثره على التراب، ولكن لا يطلّ لون، ويفوح عرف.

آه!
ليس من شانك أن تفتّح براعم الزهر.

من
يستطيع تفتيح البرعم بكل بساطة.

إنه
يلقى نظرة عليه، فيدبّ فى عروقه رحيق الحياة.

لدى
لهاثه تبسط الزهرة جناحيه، وتخفق بهما فى الريح.

الألوان
تطلّ حمراء كشهوة القلوب، والعرف يبوح بسرّ عذب.

من
يستطيع تفتيح البرعم يعمل بكل بساطة”.

(طاغور: جنى
الثمار، 18، فى: طاغور، مسرح وشعر، تعريب يوحنا قمير، دار المشرق، بيروت، 1967، ص
210 -211].

 

ب
– كذلك علم الله هو علم المحبة:

 من
هنا أن معرفته الثاقبة لكل شاردة وواردة فينا ليست تلك المعرفة العدوانية التى
تخترق كياننا لتنتهك أسرارنا وتعرّيها وتفضحه، كما يتصوّر الكثيرون ” عين
الله” ليرتعبوا منه، وكما تصورّها الطفل سارتر فثار على هذه العين المتطفلة
المقتحمة وطردها من حياته
.

 

إن
” عين الله” هى على العكس عين الرعاية المحِبّة:

(وَأَمَّا
أَنْتُمْ فَحَتَّى شُعُورُ رُؤُوسِكُمْ جَمِيعُهَا مُحْصَاةٌ
)(متى 10: 30].

أى
أن الله يهتم بكل شعرة منها ليحفظها ويرعاها
.

هذه
” العين” لا تنفذ إلى أعماقنا إلا لتتعهدها بحنان فائق وتوقظ فيها طاقات
الحياة الخفية الدفينة لتضعها تحت تصرّفنا
.

ليست
” عين الله” ذلك الشاهد الدائم على ذنوبنا والمبرّر الإلهى لشعور مضنٍ
بالإثم يعذبنا
.

إنها
عين المحبة الفائقة التى تنفذ إلى ما هو أعمق وأبعد من آثامنا
.

إلى
ذلك التوق الأصيل المتوثب أبدًا فى صميم الصميم منا
.

وتكشفه
لنا ليطمئن قلبنا ويتشجع ويتابع المسيرة والنضال:

(عِنْدَئِذٍ
نَتَأَكَّدُ أَنَّنَا نَتَصَرَّفُ بِحَسَبِ الْحَقِّ، وَتَطْمَئِنُّ نُفُوسُنَا
فِي حَضْرَةِ اللهِ، وَلَوْ لاَمَتْنَا قُلُوبُنَا؛ فَإِنَّ اللهَ أَعْظَمُ مِنْ
قُلُوبِنَا، وَهُوَ الْعَلِيمُ بِكُلِّ شَيْءٍ
) (1 يوحنا 3: 19،
20]
.

 ج
– وعدالة الله هى عدالة المحبة:

 من
هنا إنها تتجاوز المقاييس الحسابية الضيقة الشائعة بين البشر والتى تعكس ضيق
قلوبهم وبخلها واستئثارها
.

هذا
ما يتضح من مثل رب الكرم
(فَإِنَّ مَلَكُوتَ اَلسَّمَاوَاتِ
يُشْبِهُ رَجُلاً رَبَّ بَيْتٍ خَرَجَ مَعَ اَلصُّبْحِ لِيَسْتَأْجِرَ فَعَلَةً
لِكَرْمِهِ فَاتَّفَقَ مَعَ اَلْفَعَلَةِ عَلَى دِينَارٍ فِي اَلْيَوْمِ
وَأَرْسَلَهُمْ إِلَى كَرْمِهِ
.. اِذْهَبُوا أَنْتُمْ أَيْضاً إِلَى
اَلْكَرْمِ فَتَأْخُذُوا مَا يَحِقُّ لَكُمْ. فَلَمَّا كَانَ اَلْمَسَاءُ قَالَ
صَاحِبُ اَلْكَرْمِ لِوَكِيلِهِ: اِدْعُ اَلْفَعَلَةَ وَأَعْطِهِمُِ الأُجْرَةَ
مُبْتَدِئاً مِنَ الآخِرِينَ إِلَى اَلأَوَّلِينَ. فَجَاءَ أَصْحَابُ اَلسَّاعَةِ
اَلْحَادِيَةَ عَشْرَةَ وَأَخَذُوا دِينَاراً دِينَاراً. فَلَمَّا جَاءَ
اَلأَوَّلُونَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ أَكْثَرَ. فَأَخَذُوا هُمْ أَيْضاً
دِينَاراً دِينَاراً. وَفِيمَا هُمْ يَأْخُذُونَ تَذَمَّرُوا عَلَى رَبِّ
اَلْبَيْتِ قَائِلِينَ: هَؤُلاَءِ الآخِرُونَ عَمِلُوا سَاعَةً وَاحِدَةً وَقَدْ
سَاوَيْتَهُمْ بِنَا نَحْنُ اَلَّذِينَ اِحْتَمَلْنَا ثِقَلَ اَلنَّهَارِ
وَاَلْحَرَّ! فَقَالَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ: يَا صَاحِبُ مَا ظَلَمْتُكَ! أَمَا
اِتَّفَقْتَ مَعِي عَلَى دِينَارٍ؟ فَخُذِ اَلَّذِي لَكَ وَاِذْهَبْ فَإِنِّي
أُرِيدُ أَنْ أُعْطِيَ هَذَا اَلأَخِيرَ مِثْلَكَ. ومَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَفْعَلَ
مَا أُرِيدُ بِمَالِي؟ أَمْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةٌ لأَنِّي أَنَا صَالِحٌ؟
) (متى20: 1-
15]
.

حيث
نرى صاحب الكرم يسلك سلوكا محيّرًا لائقا بالله
.

فيوفى
عمّال الساعة الحادية عشرة أكثر من حقهم بكثير بدافع من كرمه وسخائه
.

2-
سمات المحبة الإلهية:

بالمقابل
فإن المحبة الإلهية بدورها تتوضح سماتها من خلال الصفات التى تُنسب إليه، مما
يجنبّنا تأويل المحبة هذه وفقا لأهوائنا كما رأينا يحصل بالنسبة إلى الصفات
الإلهية الأخرى:

أ
– فالمحبة الإلهية عادلة:

 ولذا
فإنها لا تعرف الانحياز الانفعالى والمصلحى وهو ما يسميه الكتاب” محاباة
الوجوه” وينزّه الله عنه، ذلك الانحياز الذى كثيرًا ما يشوّه محبتنا البشرية
.

(لأَنَّهُ
لَيْسَ عِنْدَ اَلرَّبِّ إِلَهِنَا ظُلْمٌ وَلاَ مُحَابَاةٌ وَلاَ اِرْتِشَاءٌ
) (أخبار
الأيام الثانى 19: 7]
.

(لأَنْ
لَيْسَ عِنْدَ اَللهِ مُحَابَاةٌ
) (رومية 2:
11]
.

(وَإِنْ
كُنْتُمْ تَدْعُونَ أَباً الَّذِي يَحْكُمُ بِغَيْرِ مُحَابَاةٍ حَسَبَ عَمَلِ
كُلِّ وَاحِدٍ، فَسِيرُوا زَمَانَ غُرْبَتِكُمْ بِخَوْفٍ
) (1 بطرس 1:
17]
.

 

ب
– المحبة الإلهية عارفة:

 لذا
فإنها لا تتعامى عن واقع المحبوب ولا تحب فيه خيالاً يتناسب مع حقيقته لأنه من نسج
الهوى، ولا تتجاهل خيره الحقيقى لتقضى من خلاله مأربه، وهى انحرافات كثيرًا ما
تشوب محبتنا البشرية
.

 

ج
– المحبة الإلهية قادرة:

 أى
أنها لا تنهار أمام نزوات المحبوب فتطاوعه فى ما يسئ إليه، كما قد يحصل للمحبة
البشرية، ولا تكتفى بتمنى الخير للمحبوب بل هى ماضية فى تحقيقه إلى أبعد الحدود،
وهى وحدها أقوى من الموت الذى يقف حبنا البشرى عاجزًا أمامه
.

 

ثانيًا:
كيف نفهم “غضب الله”:

1-
صورة “غضب الله” الكتابية ينبغى أخذها على محمل الجدّ:

إن
صورة ” غضب الله” تتكرّر فى الكتاب المقدس، فى عهديه القديم والجديد،
وينبغى أن تأخذ على محمل الجدّ إذا شئنا أن تستقيم نظرتنا إلى الله
.

ينبغى
أن ننقى هذه الصورة من الاسقاطات البشرية العالقة بها دون أن نتخلّى عنه، متجنبين
ما يسمّيه المثل الألمانى ” لا تقذف الطفل مع ماء حمّامه”
.

ذلك
أن هذه الصورة تسمح لنا بإدراك سمات أساسية لمحبة الله:

 

أ
– بأن محبة الله ليست حيادية، لا تبالى بسلوك المحبوب:

لأنه،
لو صحّ ذلك، لكانت على نقيض المحبة الحقة
.

فلو
كان لسان حال موقفى من المحبوب هو: ” افعل ما تشاء، فإن محبتى لك لا تبالى
بما أنت فاعله ولا تكترث حتى لموقفك منى”،

فكأننى
أقول له: ” إن شخصك لا يهمّنى. ما يهمّنى فقط هو أن أبقى أنا على مستوى من
السموّ الذاتى، فأحافظ على محبتى لك لأطمئن إلى نقاوة الصورة التى أرسمها عن
نفسى”
.

المحبّة
الحقة لا يسعها بالتالى أن تبقى لا مبالية بسلوك الطرف الآخر، إنها لا بدّ منجرحة،
متضايقة، إذا ما كان المحبوب يتصرّف تصرفا مؤذيا بحق نفسه وإذا كان يقابل المحبة
الممنوحة له بالرفض والاعراض
.

 

ب
– محبة الله ليست من باب الترف والكماليات:

بأن
محبة الله ليست أمرًا يمكن للإنسان أن يستخف به دون أن يلحقه ضرر، وكأنها من باب
الترف والكماليات
.

فالإنسان
لا يحيا ولا يوجد إلا بفضل محبة الله له، تلك المحبة التى منها يستمد فى كل لحظة
الحياة والوجود:

(لأَنَّنَا
بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ. كَمَا قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِكُمْ أَيْضاً:
لأَنَّنَا أَيْضاً ذُرِّيَّتُهُ
) (أعمال 17:
28
).

 

ولكن
هذه المحبة تستتر وراء عطاياها تغدق هذه العطايا بدون قيد ولا شرط:

(فَإِنَّهُ
يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى اَلأَشْرَارِ وَاَلصَّالِحِينَ وَيُمْطِرُ عَلَى
اَلأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ
) (متى 5: 45].

بحيث
قد يتخيّل الإنسان بأن بإمكانه أن يستغنى عنها ويتجاهلها
.

 

ولكنه
إذا فعل، يحافظ عند ذاك على المقوّمات الجسدية والنفسية لحياته، إنما يفقد
المقومات الروحية التى بها وحدها تكتمل حياته وتأخذ جدواها ومعناها وتحقق الهدف
الذى من أجله وُجدت وإليه تسعى فى قرارة ذاتها
.

 

لا
بلّ إن غياب هذه المقوّمات الروحية كثيرًا ما ينعكس على المقوّمات الجسدية
والنفسية عينها فيزرع فيها الخلل والاضطراب والموت (فالفراغ الروحى قد يدفع
الإنسان إلى التهافت على الكسب والاستهلاك على حساب سعادته الحقيقية، وقد يدفعه
إلى إدمان المخدرات التى تدمّر النفس والجد، وقد يدفع البشر إلى التناحر والتباغض
والاقتتال
.).

 

2
– نحو فهم سليم ل ” غضب الله”:

من
هنا يمكننا أن نفهم المقصود ب “غضب الله” على الوجهين التاليين:

 

أ
– رفض الإنسان لمحبة الله المقدّمة له تجرح الله فى الصميم:

 

إن
رفض الإنسان لمحبة الله المقدّمة له تجرح الله فى الصميم
.

فإله
الكتاب، الرب يسوع المسيح، ليس ذلك ” المحرّك الذى لا يتحرّك” الذى كان
يتصوّره أرسطو
.

إنه
إله شخصى سمته الرئيسية المحبة
.

لذ،
فقد أوجد الكون والإنسان حب، وجعل شبها بين الإنسان وبينه كى يتمكّن الإنسان من
التفاوض معه والدخول معه فى علاقة حب خالدة
.

لذا
فهو يسعى أبدًا إلى الإنسان ويخاطب قلبه إن من خلال بهاء الكون وخيراته ومن خلال
ملازمته المباشرة لهذا القلب
.

ولكنه
ينتظر من الإنسان أن يستجيب للحب بالحب، ولا يمكن لهذه الاستجابة إلا أن تاتى حرة
وإلا فلا طعم له، ولا قيمة للحب الذى يغتصب المحبوب اغتصابا
.

 

فإذا
تجاوب الإنسان مع الحب الإلهى وأعطى لله قلبه بالمقابل، كان لدى الله فرح الحب
الذى بلغ قصده وغايته
.

ذلك
هو
(فَرَحٌ فِي
اَلسَّمَاءِ
) (لوقا 15: 7) و(فَرَحٌ
قُدَّامَ مَلاَئِكَةِ اَللهِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ
) (لوقا 15:
10]
.

الذى
قال لنا يسوع أنه يحصل عند عودة خاطئ واحد
.

 

والمعروف
لدى المفسرين أن هاتين العبارتين إنما هما إشارتان بالتورية إلى فرح الله نفسه
.

 

أما
إذا رفض الإنسان التجاوب مع الحب الإلهى، فيعترى الله حينذاك ما يشبه الحزن البشرى
(أقول ” ما يشبه”، لأنن، فى هذه الدني، لا نرى الله:
(فَإِنَّنَا
نَنْظُرُ اَلآنَ فِي مِرْآةٍ فِي لُغْزٍ لَكِنْ حِينَئِذٍ وَجْهاً لِوَجْهٍ
.) (1 كورونثوس
13: 12]، ولا يسعنا بالتالى التحدّث عنه إلا بصور ورموز) وما يمكن التعبير عنه ب
” الغضب”، نظرًا لما تحويه هذه العبارة من معانى الضيق والخيبة والاحباط
.

 

علما
بأن مفهوم” الغضب” هذا يمكن المقاربة بينه وبين مفهوم كتابىّ آخر وهو
” غيرة” الله
.

فكما
أن الحب البشرى مقترن ولا بدّ بالغيرة على قدر ما يوليه للمحبوب من أهمية فائقة
وما يحرص عليه من علاقة فريدة معه، هكذا ف- ” الغيرة” تصلح نعتا رمزيا
للحب الإلهى ولما يعترى هذا الحب من معاناة عند رفض الإنسان له، شرط أن نجرّد
الغيرة من معانى التملّك الذى كثيرًا ما يشوب الحب البشرى:

فالحب
الإلهى حب خالص لا أثر للتملك فيه، لا يسعده إحتواء المحبوب بلّ مجرّد إسعاده، لذا
فهو أبدًا منفتح للمحبوب، حتى فى صميم المعاناة التى يلحقها به هذا الأخير من
جرّاء إعراضه عنه، ومستعد للتغاضى عن كل ما صدر عنه من عقوق وخيانة إذا ما شاء
العودة (هذا ما اختبره النبى هوشع، فى القرن الثامن قبل الميلاد، عبر علاقته
الشخصية بإمرأة أحبها وتزوج منها فخانته وكانت تحمل هداياه إلى عشاقه، فذاق منها
الأمرين، ولما شاءت العودة إليه بعد أن فقدت رونق صباها وأعرض عنها عشاقه، أدرك
النبىّ بإلهام الله أنه ينبغى له أن يعيد لها حبه، وانكشف له، من خلال هذه الخبرة
الشخصية الماساوية، عمق محبة الله لشعبه ومدى أمانته للعهد الذى قطعه له)
.

 

ب
– رفض الإنسان للحب الإلهى محطم لهذا الإنسان:

ولكن
رفض الإنسان للحب الإلهى هو أيضا محطم لهذا الإنسان
.

إنه
يؤدى، كما قلن، إلى تدمير الحياة الحقة فيه، فيرتد عليه رفضه انتحاريا ويتسرّب
الموت إلى صميم كيانه
.

إن
هذه الآثار المدمّرة لرفض الإنسان لله قد تتجلّى منذ هذه الحياة الدنيا عبر ما
يعترى الحياة الإنسانية الفردية والجماعية من خلل واضطراب وبؤس واقتتال (فويلات
الحرب البنانية هى مثل، من ناحية من النواحى، نتيجة زيف تديّن العديد من
اللبنانيين ومحاولتهم الكفرية، غير المعترف به، لاحتواء من لا يُحتوى وهو الله،
واستخدامه لنفخ كياناتهم الطائفية وتضخيمها صنميا)، ولكنها تتجلى بما لا يحتمل
الالتباس عندما يُسلخ الإنسان بالموت الجسدى عن الخيرات الطبيعية التى كان لا يزال
حبّ الله يكتنفه بها رغم رفضه له، فيكتشف إذ ذاك، وهو فى حالة العرى الكامل، حقيقة
ذاته، التى كان يحجبها عنه تلهّيه بخيرات الأرض، ويدرك أن أساس كيانه ومحور هذا
الكيان، وما هو أبعد وأبقى من حاجاته كله، إنما هو رغبة محورية فى لقاء الله عبر
التجاوب مع نداء الحب الذى يوجّهه الله إليه
.

 

فإن
كان قد تحجّر فى رفضه لله، أضحى ممزقا بين رغبته المحورية هذه ورفضه
.

 

يقول
اللاهوتى الأورثوذكسى ” أوليفيه كليمان” واصفا هذا الوضع: “
. ما هو
الجحيم إن لم يكن المكان، وبالأحرى الحالة والوضع اللذين اخترعهما الإنسان لكى لا
يكون الله، إنه العالم الذى طرد منه الله، الذى يكون فيه الله مهجورًا من الإنسان،
الذى يحسّ فيه الإنسان بصورة غامضة أنه مهجور من الله، لأنه صورة الله وبالتالى
مشدود، شاء وأبى، نحو مثاله”
.

وقد
أوضح اللاهوتى والفيلسوف الأورثوذكسى اليونانى خريستوس ياناراس أنه، وفقا لتعليم
القديس اسحق السريانى: ” الجنة والنار لا يرتبطان بنوع العدالة الإلهية، وأن
عقاب الخطاة لا يأتى من الله
.. بالحقيقة كل شئ مرتبط بقدرة الإنسان
وعجزه على المساهمة فعلاً فى وجود الله وحياته
. فالله سوف
يعطى ذاته للكل، لكل واحد، سوف يكون مع الكل، ولكن هذ المعية سوف تؤول إلى أنماط
وجود مختلفة: الجنة والنار
. كان ديستوفسكى يقول أن” جهنم هى
الألم المبرّح الناتج عن العجز عن الحب “!!
. ويقول
القديس إسحق السريانى نفس الشئ بالضبط
.

 

يشدّه
إلى الله عطشه إلى اللامتناهى، الذى لا يرويه إلا الله نفسه، فى حين أن لا حيلة
له، وقد رفض الله، إلا أن يحاول دون جدوى أن يروى هذا العطش من فراغه الذاتى
.

 

هكذا
يكتوى بعطش مقيم لاهب أشار إليه الكتأب المقدس بصورة ” النار الأبدية”
.

عند
ذاك لا بدّ للحب الإلهى، الذى لا يزال يحيط به ويناديه (وهو الذى يخلّده فى
الوجود)، أن يبدو له وبالاً ونقمة، لا لأن هذا الحب قد تحوّل فعلاً إلى نقمة، بل
لأنه يوقظ فى ذلك الإنسان رغبة عميقة فى التجاوب معه ليس بمقدور هذا الإنسان أن
يلبيها نظرًا لتحجّره فى الرفض
.

 

هكذا
تحصل هذه المفارقة ألا وهى أنه يتعذّب بالحب الإلهى لأنه لا يشاء أن يعطى هذا الحب
فرصة إسعاده
.

وكأن
الحب الإلهى قد تحوّل، والحالة هذه، فى نظر الإنسان، إلى ” غضب” يصبه
الله عليه
.

فى
حين أن ” الغضب” هذا ما هو بالحقيقة إلا نتيجة تعطيل الإنسان لمفعول
الحب الإلهى فيه ودمغه إياه بعلامة سالبة بدل العلامة الإيجابية التى هى له فى
الأصل
.

 

مما
يتسبّب فى مأساة هى، كما قالت إحدى القديسات، مأساة الله نفسه قبل أن تكون مأساة
الإنسان
.

 

هل
يقتل الله فى سبيل التأديب؟

هل
يقتل الله فى سبيل التأديب؟ وكيف نفهم حادثة سدوم وعامورة؟
.

 

مقدمة:
المفهوم الشائع عن الله:

المفهوم
الشائع عن الله بين الناس، حتى المسيحيين منهم، أن الله يقتل أعداءه
.

إنه
تصوّر فطرى (لا بمعنى الفطرة النقية التى فطرنا الله عليه، أى صورته فين، بل بمعنى
ما نشعر به تلقائيا فى وضعنا الساقط، وهو وضع تحتجب فيه أصالتنا وراء ” قناع
الأهواء”)، يلصق بالله نزعتنا إلى التخلّص ممن يعترض سبيلنا (فنصوّر الله على
شاكلة بؤسنا عوض أن نتصوّر نحن على شاكلة مجده)
.

 

إن
عفوية أهوائى تجعلنى انظر إلى الآخر من خلال مشاريعى: فإن اعترضه، جازت بنظرى
إزالته
.

فإذا
بى ألصق بالله الموقف نفسه، فأجعل منه إلها يتلاءم مع ما ألفته فى نفسى، واتجاهل
كونته ” الآخر بالكلية”، ذاك الذى يدعونى إلى تخطى ما ألفته وارتحت إليه
من انحراف وتشويه فى ذاتى ” أخرج من أرضك” لأجد به ذاتى الحقيقية، تلك
التى يتصوّر هو فيها
.

 

الله
يكشف لى ذاته باستمرار، ولكننى أتلقى هذا الكشف من خلال ما أنا عليه من مواقف
وأوضاع تلوّن، وقد تشوه، الكشف الذى أتلقاه منه
.

الشمس
واحدة، ولكننى أراها حمراء وخضراء وزرقاء حسب لون النظارات التى أضعها على عينىّ
.

وحدها
النظارة الصافية تكشف لى كل حقيقتها
.

هكذا
بقدر ما تشفّ نظرتى إلى الله، بهذا المقدار عينه يستقيم كشفه عن ذاته
.

 

من
هنا أن الله فى العهد القديم كثيرًا ما يبدو إلها بطاشا ينتقم لنفسه يقتل أعدائه:
إبادة الناس جملة بالطوفان، تدمير سدوم وعامورة، قتل أبناء المصريين، إماتة الذين
خالفوا موسى، إرسال الحيات على شعب إسرائيل فى البرية لمعاقبته على تذمّره ضد الله
وموسى
. هذا كله،
غالبا ما يُبَرّر على أنه ” تأديب” من الله
.

 

ولكن
هذه ” العقلنة” للتصرّف المدمّر المنسوب إلى الله لا تغيّر شيئا فى
جوهره ولا تجعله أكثر لياقة بالله
.

ذلك
أنه، إذا صحّ هذا التبرير، يكون الله قد إتخذ من إنسان م، ومجموعة من البشر، مجرد
أداة لتنفيذ مشروع تأديبى، أى أنه يكون، فى تلك الحالة، غير مقيم وزنا لقيمة هذا
الإنسان وهذا الجمع بحدّ ذاته
.

 

من
جهة أخرى يكون، والحالة هذه، قد ضرب عرض الحائط بحريّة الناس، إذ يكون قد أرغمهم
بعنفه على الخضوع له، ناهيك عن أن مثل هذا الخضوع لا بدّ وأن يكون شكليا وظاهريا
لا يتغير من جرّائه أى شئ فى قلوبهم
.

 

هذا
التصوّر عن الله يعكس، كما رأين، أنوية البشر العدوانية
.

ولكنه،
بالمقابل، يرسخها أيضا وبغذّيه، إذ يعطيها مبرّرًا مستمدًّا مما يُعتقد أنه أخلاق
الله نفس÷
.

إنه
يمنحنا ذريعة لنتحكّم بمصير الآخرين ونبطش بهم لتأكيد سلطانن، مقنعين أنفسنا بأنن،
إذا فعلنا ذلك، فإنما نحن نخدم الله وننفذ مشيئته ونعليه على ” أعدائه”
.

من
هنا نرى البشر، ولو كانوا أعظمهم وأقدسهم، يسيرون على منوال الصورة التى يرسمونها
عن إلههم (بهذا المعنى يصحّ القول: ” قل لى من هو إلهك، أقول لك من
أنت”):

فموسى
العظيم يأمر سبط لاوى بأن يقتلوا جملة من الإسرائيليين الذين عبدوا ” العجل
الذهبى”
. (هذا مع
العلم بأن موسى نفسه، عندما تراءى له أن الله سوف يبيد الشعب كله عقابا له على
عبادته لهذا الوثن، رفض هذا الاحتمال بكل جوارحه واستند فى ضراعته إلى الله إلى ما
سبق لله أن عبر عنه من رحمة لهذا الشعب، وكانه يحتكم ضد صورة الإله المنتقم إلى ما
اختبره من حقيقة الله فكان هذا الصراع الذى عاشه فرصة له لتنقية إيمانه بالله من
شوائب العتاقة البشرية ولكن هذه التنقية لم تصل عنده إلى آخر المطاف
) (راجع خروج
32: 7 – 14
).

ويشوع
بن نون يبيد مدنا كنعانية إبادة كاملة معتقدًا أن هذه هى مشيئة الله
.

وإيليّ،
أعظم أنبياء العهد القديم، يذبح بيده 450 كاهنا من كهنة البعل
.

وقد
امتدّ ذلك إلى ” العهد الجديد” بفعل استمرار ” عتاقة” الأهواء
متحكّمة فى كثيرين من ” أبناء النور”، على الأقل فى مجالات واسعة من
وجودهم، فأدى إلى الحروب الصليبية (وإغراق القدس بالدماء عند فتحها) ومحاكم
التفتيش وإحراق الهراطقة غربا وشرقا
.

 

أولاً
المسيح يكشف لنا صورة الله الحقيقية:

ولكن
الله ” بعد أن كلّم الآباء بالأنبياء”، مجتهدًا عبرهم أن يرمّم تدريجيا
صورته المشوّهة فى الإنسان، متخذًا لهذا الغرض شعبا اختصه لنفسه ليجعل منه خميرة
لجميع شعوب الأرض، الله ” كلّمنا أخيرًا فى ابنه” المتجسّد يسوع المسيح
.

وقد
كشف لنا الرب يسوع المسيح حقيقة صورة الله، كاملة، دون زيغ وتشويه
.

وذلك
ليس فقط لأنه ” كلمة الله “، وبالتالى ” صورة جوهره”:

(اَللهُ،
بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ
كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ – الَّذِي
جَعَلَهُ وَارِثاً لِكُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي بِهِ أَيْضاً عَمِلَ الْعَالَمِينَ.
الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ
الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ، بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيراً
لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي
) (عبرانيين 1:
1- 3
)،

بلّ
لأن إنسانيته شفت تماما للنور الإلهى الحالّ فيه، فأوصلته إلينا دون تلوين وتشويه
.

ولم
يتمّ ذلك دون معاناة وصراع، لأن يسوع الإنسان جُرّب بالانقياد لصورة الإله
المحارب، المنتقم، الساحق، وقد داهمته هذه التجربة منذ بدء حياته البشرية، واحتدمت
إلى حدّ النزاع وتساقط العرق من جبينه كقطرات الدم فى بستان جسيمانى قبل الآلام
عندما جُرّب بإبعاد كأسها عنه وحسم الموقف لصالحه و[.. َظَهَرَ لَهُ مَلاَكٌ مِنَ
اَلسَّمَاءِ يُقَوِّيهِ
) (لوقا 22:
43] لسحق خصمه، وامتدت إلى الوقت الذى يحتضر فيه معلقا على الصليب ويواجه تعييرات
أعدائه المتحدّين له بقولهم: ” إن كنت ابن الله فإنزل عن الصليب”
.

 (وَكَانَ
اَلشَّعْبُ وَاقِفِينَ يَنْظُرُونَ وَاَلرُّؤَسَاءُ أَيْضاً مَعَهُمْ يَسْخَرُونَ
بِهِ قَائِلِينَ: خَلَّصَ آخَرِينَ فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَهُ إِنْ كَانَ هُوَ
اَلْمَسِيحَ مُخْتَارَ اَللهِ
) (لوقا 23:
35]
.

إن
يسوع، ببقائه على هذه الشفافية الناصعة لنور الله، كشف لنا حقيقة الله الكاملة، إن
بسلوكه وبتعليمه:

 

1
– بسلوكه:

سوف
نبرز هذا السلوك من خلال ثلاث محطات من سيرة الرب يسوع المسيح:

 

أ
– جواب يسوع عن سؤال يوحنا المعمدان:

 

يوحنا
السابق، ذاك الذى شهد عنه يسوع نفسه بأنه: ” أعظم المولودين من النساء”،
كان مع ذلك مرتبطا بالعهد القديم من حيث تصوّره لله
.

لذا
كان ينتظر، على ما يبدو – شأنه فى ذلك شأن فرقة ” الآسانيين” وهم رهبان
يهود عاشوا فى ذلك العصر وعرفنا الكثير عنهم من مخطوطات البحر الميت التى اكتشفت
بدءًا من عام 1947 – أن يأتى الله بقوة ساحقة ليبيد أعداءَه ويقيم على أشلائهم
مملكة البرّ
.

هذا
ما يُستدلّ من عبارات الوعيد التى تلفظ بها عندما أنذر اليهود بوجوب التوبة، والتى
يقترن فيها الإعلان عن إقتراب عهد المسيح بصورة النار التى تحرق الأعداء:

(وَالآنَ
قَدْ وُضِعَتِ الْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ الشَّجَرِ فَكُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ
ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ. أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ
لِلتَّوْبَةِ وَلَكِنِ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي هُوَ أَقْوَى مِنِّي الَّذِي
لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحْمِلَ حِذَاءَهُ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ
الْقُدُسِ وَنَارٍ. الَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ
وَيَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى الْمَخْزَنِ وَأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ
لاَ تُطْفَأُ
) (متى 3: 10 –
12]

 

وقد
تعرّف يوحنا بالروح على يسوع بأنه المسيح المنتظر فدلّ الناس عليه
.

ثمّ
اُعتقِل بسبب إخلاصه لشريعة الله، ولا بدّ أنه كان ينتظر فى سجنه أن يُعتلن غضب
الله على يدّ مسيحه فيحطم الأشرار ويُطلق الأبرار من عقالاتهم
.

إن
انتظاره هذا لمّ يكن بالأمر الغريب وقد كان منسجما مع كل ذهنية العهد
.

لذا
حيّره إحجام يسوع عن إطلاق غضب الله
.

لذا
(أَمَّا
يُوحَنَّا فَلَمَّا سَمِعَ فِي اَلسِّجْنِ بِأَعْمَالِ اَلْمَسِيحِ أَرْسَلَ
اِثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ هُوَ الآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ
آخَرَ؟
) (متى 11: 2،
3]
.

أدرك
يسوع قصد يوحنا من سؤاله، فما كان جوابه إليه؟:

(اِذْهَبَا
وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا تَسْمَعَانِ وَتَنْظُرَانِ: اَلْعُمْيُ يُبْصِرُونَ
وَالْعُرْجُ يَمْشُونَ وَالْبُرْصُ يُطَهَّرُونَ وَالصُّمُّ يَسْمَعُونَ
وَاَلْمَوْتَى يَقُومُونَ وَاَلْمَسَاكِينُ يُبَشَّرُونَ. وَطُوبَى لِمَنْ لاَ
يَعْثُرُ فِيَّ
)(متى 11: 4
-6]
.

 

وكأنه
يقول له: أنك تنتظر أن يعلن الله عن نفسه بالغضب الساطع المدمّر، ولكنه بالفعل
إنما يكشف اقترابه بالرحمة المحيية والمحرّرة الممنوحة لمسحوقى الأرض والتى سبق
للنبى إشعياء أن تحدث عن بزوغها فى يوم مجئ الرب:

(تَحْيَا
أَمْوَاتُكَ. تَقُومُ اَلْجُثَثُ. اِسْتَيْقِظُوا. تَرَنَّمُوا يَا سُكَّانَ
اَلتُّرَابِ. لأَنَّ طَلَّكَ طَلُّ أَعْشَابٍ وَاَلأَرْضُ تُسْقِطُ اَلأَخْيِلَةَ
) (أشعياء 26:
19]،

[وَيَسْمَعُ
فِي ذَلِكَ اَلْيَوْمِ َلصُّمُّ أَقْوَالَ السِّفْرِ وَتَنْظُرُ مِنَ اَلْقَتَامِ
وَالظُّلْمَةِ عُيُونُ اَلْعُمْيِ
) (أشعياء 29:
18]،

(حِينَئِذٍ
تَتَفَتَّحُ عُيُونُ اَلْعُمْيِ وَآذَانُ اَلصُّمِّ تَتَفَتَّح ُ]
(أشعياء 35:
5
)،

(أَرْسِلُوا
خِرْفَانَ حَاكِمِ اَلأَرْضِ مِنْ سَالَعَ نَحْوَ اَلْبَرِّيَّةِ إِلَى جَبَلِ
اِبْنَةِ صِهْيَوْنَ
) (اشعياء 16: 1].

أما
شهادة الحق فلن تفرض نفسها الساحقة بل تشق طريقها عبر إخلاص حتى الموت
. والقيامة.

 

بهذا
البرنامج الذى رسمه وحققه الرب يسوع المسيح لرسالته، قلب المفاهيم الشائعة عن نمط
تدخل الله فى الأرض ليقيم فيها مملكته
.

 

وإننا
نجد نفس البرنامج فى تلك الخطبة التى ألقاها يسوع فى مجمع الناصرة ودشن بها
رسالته:

(وَجَاءَ
إِلَى النَّاصِرَةِ حَيْثُ كَانَ قَدْ تَرَبَّى. وَدَخَلَ الْمَجْمَعَ حَسَبَ
عَادَتِهِ يَوْمَ السَّبْتِ وَقَامَ لِيَقْرَأَ فَدُفِعَ إِلَيْهِ سِفْرُ
إِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ. وَلَمَّا فَتَحَ السِّفْرَ وَجَدَ الْمَوْضِعَ الَّذِي
كَانَ مَكْتُوباً فِيهِ: { رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ
الْمَسَاكِينَ أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ لأُنَادِيَ
لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ وَأُرْسِلَ
الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ وَأَكْرِزَ بِسَنَةِ الرَّبِّ الْمَقْبُولَةِ
}. ثُمَّ طَوَى السِّفْرَ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْخَادِمِ وَجَلَسَ. وَجَمِيعُ
الَّذِينَ فِي الْمَجْمَعِ كَانَتْ عُيُونُهُمْ شَاخِصَةً إِلَيْهِ. فَابْتَدَأَ
يَقُولُ لَهُمْ: { إِنَّهُ الْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هَذَا الْمَكْتُوبُ فِي
مَسَامِعِكُمْ }
)(لوقا 4: 16 – 21).

 

ب
– جواب يسوع على طلب وجّهه إليه يعقوب ويوحنا:

الموقف
نفسه، وما يكشفه من سلوك الله، نجده فى جواب يسوع على طلب وجّهه إليه يعقوب ويوحنا
ابنا زبدى
.

كان
السامريون واليهود أعداء ألداء فى ذلك العهد
.

وكان
السامرين، من جراء ذلك يتربّصون باليهود الذين كانوا يمرّون بقراهم فيسيئون
معاملتهم، خاصة إذا كانوا حجاجًا صاعدين إلى أورشليم
.

هذا
ما يلقى ضوءًا على تلك الحادثة التى يرويها لوقا الإنجيلى:

(وَحِينَ
تَمَّتِ اَلأَيَّامُ لاِرْتِفَاعِهِ ثَبَّتَ وَجْهَهُ لِيَنْطَلِقَ إِلَى
أُورُشَلِيمَ وَأَرْسَلَ أَمَامَ وَجْهِهِ رُسُلاً فَذَهَبُوا وَدَخَلُوا قَرْيَةً
لِلسَّامِرِيِّينَ حَتَّى يُعِدُّوا لَهُ. فَلَمْ يَقْبَلُوهُ لأَنَّ وَجْهَهُ
كَانَ مُتَّجِهاً نَحْوَ أُورُشَلِيمَ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ تِلْمِيذَاهُ
يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا قَالاَ: { يَا رَبُّ أَتُرِيدُ أَنْ نَقُولَ أَنْ تَنْزِلَ
نَارٌ مِنَ اَلسَّمَاءِ فَتُفْنِيَهُمْ كَمَا فَعَلَ إِيلِيَّا أَيْضاً؟ }
فَالْتَفَتَ وَاِنْتَهَرَهُمَا وَقَالَ: { لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مِنْ أَيِّ رُوحٍ
أَنْتُمَا! لأَنَّ اِبْنَ اَلإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ اَلنَّاسِ
بَلْ لِيُخَلِّصَ }. فَمَضَوْا إِلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى
) (لوقا 9: 51
– 56]
.

 

لقد
أطلق يسوع بحق على ابنى زبدى لقب ” ابنى الرعد”، وها هما فى هذه الحادثة
يتصرفان وفقا للقبهما
.

ولكن
الموقف الذى وقفاه من السامريين الرافضين استقبال يسوع لم يكن من عندياتهما
.

لقد
استلهماه من حادثة يرويها الكتاب عن إيليا عندما استنزل نارًا من السماء أحرقت على
دفعتين رسل الملك أخزيا:

(‏وَسَقَطَ
أَخَزْيَا مِنَ اَلْكُوَّةِ اَلَّتِي فِي عُلِّيَّتِهِ اَلَّتِي فِي اَلسَّامِرَةِ
فَمَرِضَ، ‏وَأَرْسَلَ رُسُلاً وَقَالَ لَهُمُ: [اِذْهَبُوا اِسْأَلُوا بَعْلَ
زَبُوبَ إِلَهَ عَقْرُونَ إِنْ ‏كُنْتُ أَبْرَأُ مِنْ هَذَا اَلْمَرَضِ
). فَقَالَ
مَلاَكُ اَلرَّبِّ لإِيلِيَّا اَلتِّشْبِيِّ قُمِ: ‏‏
(اِصْعَدْ
لِلِقَاءِ رُسُلِ مَلِكِ اَلسَّامِرَةِ وَقُلْ لَهُمْ: هَلْ لأَنَّهُ لاَ يُوجَدُ
فِي ‏إِسْرَائِيلَ إِلَهٌ، تَذْهَبُونَ لِتَسْأَلُوا بَعْلَ زَبُوبَ إِلَهَ
عَقْرُونَ؟ فَلِذَلِكَ ‏هَكَذَا قَالَ اَلرَّبُّ: إِنَّ اَلسَّرِيرَ اَلَّذِي
صَعِدْتَ عَلَيْهِ لاَ تَنْزِلُ عَنْهُ بَلْ ‏مَوْتاً تَمُوتُ
).
فَانْطَلَقَ إِيلِيَّا. وَرَجَعَ اَلرُّسُلُ إِلَيْهِ. فَقَالَ لَهُمْ:
(لِمَاذَا
‏رَجَعْتُمْ؟
) فَقَالُوا
لَهُ:
(صَعِدَ
رَجُلٌ لِلِقَائِنَا وَقَالَ لَنَا: اِذْهَبُوا ‏رَاجِعِينَ إِلَى اَلْمَلِكِ
اَلَّذِي أَرْسَلَكُمْ وَقُولُوا لَهُ: هَكَذَا قَالَ اَلرَّبُّ: هَلْ ‏لأَنَّهُ
لاَ يُوجَدُ فِي إِسْرَائِيلَ إِلَهٌ أَرْسَلْتَ لِتَسْأَلَ بَعْلَ زَبُوبَ إِلَهَ
عَقْرُونَ؟ ‏لِذَلِكَ اَلسَّرِيرُ اَلَّذِي صَعِدْتَ عَلَيْهِ لاَ تَنْزِلُ عَنْهُ
بَلْ مَوْتاً تَمُوتُ
). ‏‏فَقَالَ لَهُمْ: (مَا هِيَ
هَيْئَةُ اَلرَّجُلِ اَلَّذِي صَعِدَ لِلِقَائِكُمْ وَكَلَّمَكُمْ ‏بِهَذَا
اَلْكَلاَمِ؟
) فَقَالُوا
لَهُ: [إِنَّهُ رَجُلٌ أَشْعَرُ مُتَنَطِّقٌ بِمِنْطَقَةٍ مِنْ ‏جِلْدٍ عَلَى
حَقْوَيْهِ
). فَقَالَ: (هُوَ
إِيلِيَّا اَلتِّشْبِيُّ
). فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَئِيسَ
‏خَمْسِينَ مَعَ اَلْخَمْسِينَ اَلَّذِينَ لَهُ، فَصَعِدَ إِلَيْهِ وَإِذَا هُوَ
جَالِسٌ عَلَى ‏رَأْسِ اَلْجَبَلِ. فَقَالَ لَهُ:
(يَا رَجُلَ
اَللَّهِ، اَلْمَلِكُ يَقُولُ اِنْزِلْ
). فَأَجَابَ ‏إِيلِيَّا
رَئِيسَ اَلْخَمْسِينَ:
(إ ِنْ كُنْتُ أَنَا رَجُلَ اَللَّهِ
فَلْتَنْزِلْ نَارٌ مِنَ ‏اَلسَّمَاءِ وَتَأْكُلْكَ أَنْتَ وَالْخَمْسِينَ
اَلَّذِينَ لَكَ
). فَنَزَلَتْ نَارٌ مِنَ اَلسَّمَاءِ
‏وَأَكَلَتْهُ هُوَ وَالْخَمْسِينَ اَلَّذِينَ لَهُ. ثُمَّ عَادَ وَأَرْسَلَ
إِلَيْهِ رَئِيسَ ‏خَمْسِينَ آخَرَ وَالْخَمْسِينَ اَلَّذِينَ لَهُ. فَقَالَ لَهُ:
(يَا رَجُلَ
اَللَّهِ، هَكَذَا ‏يَقُولُ اَلْمَلِكُ: أَسْرِعْ وَانْزِلْ
). فَأَجَابَ
إِيلِيَّا:
(إِنْ كُنْتُ
أَنَا رَجُلَ اَللَّهِ ‏فَلْتَنْزِلْ نَارٌ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَتَأْكُلْكَ أَنْتَ
وَالْخَمْسِينَ اَلَّذِينَ لَكَ]. فَنَزَلَتْ ‏نَارُ اَللَّهِ مِنَ اَلسَّمَاءِ
وَأَكَلَتْهُ هُوَ وَالْخَمْسِينَ اَلَّذِينَ لَهُ‏
)(2 ملوك 1:
2- 12]
.

 

لقد
كان إيليا عظيما
.

وقد
غدت غيرته على الإله الحىّ مضرب مثل إلى يومنا هذا
.

وكان
ذا جرأة مدهشة فى التصدّى للملوك المفسدين
.

ولكنه
كان يتصوّر الله نارًا تحرق الكافرين
.

وفى
جبل الكرمل، تحدّى كهنة البعل قائلاً:

(ثُمَّ
تَدْعُونَ بِاسْمِ آلِهَتِكُمْ وَأَنَا أَدْعُو بِاسْمِ اَلرَّبِّ. وَالإِلَهُ
اَلَّذِي يُجِيبُ بِنَارٍ فَهُوَ اَللَّهُ
) (1 ملوك 18: 24].

 

ولم
يكن يدرك أنه بمبادرة الاقتدار تلك التى أقحم الله فيه، كان ينحدر، من حيث لا
يشاء، بالإله الحىّ إلى مصف البعل، الذى كان، باعتقاد الكنعانيين، إله العاصفة
والريح والرعد والصاعقة
.

 

ولكنه،
بعد أن نجح فى مبادرته تلك وذبح على أثر ذلك كهنة البعل وعدا صاحب نفوذ لدى الملك،
ارتدّ عليه انتصاره واتضح له أنه، فى لعبة العنف هذه، أضعف من أن يجارى الملكة
إيزابيل، فهرب من أمام انتقامها واكتشف حدود إقتداره
.

عند
ذاك لقنه الله درسا بليغا على جبل حوريب، يرويه سفر الملوك:

(وَدَخَلَ
هُنَاكَ اَلْمَغَارَةَ وَبَاتَ فِيهَا. وَكَانَ كَلاَمُ اَلرَّبِّ إِلَيْهِ:
(مَا ‏لَكَ
هَهُنَا يَا إِيلِيَّا؟
). فَقَالَ: (قَدْ غِرْتُ
غَيْرَةً لِلرَّبِّ إِلَهِ اَلْجُنُودِ، لأَنَّ ‏بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ تَرَكُوا
عَهْدَكَ وَنَقَضُوا مَذَابِحَكَ وَقَتَلُوا ‏أَنْبِيَاءَكَ بِالسَّيْفِ،
فَبَقِيتُ أَنَا وَحْدِي. وَهُمْ يَطْلُبُونَ نَفْسِي ‏لِيَأْخُذُوهَا
). فَقَالَ: (اُخْرُجْ
وَقِفْ عَلَى اَلْجَبَلِ أَمَامَ اَلرَّبِّ
). وَإِذَا
‏بِالرَّبِّ عَابِرٌ وَرِيحٌ عَظِيمَةٌ وَشَدِيدَةٌ قَدْ شَقَّتِ اَلْجِبَالَ
وَكَسَّرَتِ ‏اَلصُّخُورَ أَمَامَ اَلرَّبِّ، وَلَمْ يَكُنِ اَلرَّبُّ فِي
اَلرِّيحِ. وَبَعْدَ اَلرِّيحِ زَلْزَلَةٌ، وَلَمْ ‏يَكُنِ اَلرَّبُّ فِي
اَلزَّلْزَلَةِ. وَبَعْدَ اَلزَّلْزَلَةِ نَارٌ، وَلَمْ يَكُنِ اَلرَّبُّ فِي
اَلنَّارِ. ‏وَبَعْدَ اَلنَّارِ صَوْتٌ مُنْخَفِضٌ خَفِيفٌ. فَلَمَّا سَمِعَ
إِيلِيَّا لَفَّ وَجْهَهُ ‏بِرِدَائِهِ وَخَرَجَ وَوَقَفَ فِي بَابِ اَلْمَغَارَةِ
) (1 ملوك 19:
9- 13]
.

 

إنه
لكشف رائع لحقيقة الله، أتيح لإيليا على جبل حوريب
.

فقد
كانت الريح الشديدة ” تصدع الجبال وتحطم الصخور أمام الرب” ولكن الرب لم
يكن فى الريح
.

كذلك،
عبرت الزلزلة والنار عن اقتدار، ولكنه لم يكن فى هذه وتلك
.

وكان
إيليا اكتشف، بعد أن كان مأخوذًا باقتدار الله ومتخذًا منه – ربما من حيث لا يدرى
– سبيلاً لتحقيق اقتداره هو وبسط سلطانه، كأنه اكتشف أن الله، وهو الكلى الاقتدار
فعل، إنما يتجاوز اقتداره هذ، وأنه بالتالى أعظم من اقتداره ومتعالٍ عليه
.

 

تلك
كانت ومضة فى حياة إيلي، لحظة سريعة سقطت فيها الحُجُب فأطل عليه وجه الله بنوره
المحير
.

ولكن
هذه الومضة تحوّلت إلى حقيقة ثابتة راسخة فى فكر يسوع المسيح ابن الله المتجسّد
وسلوكه
.

 

من
هنا ” انتهاره” لابنى الرعد عندما عرضا عليه تكرار ما روى عن إيليا من
استنزال نار من السماء لاحراق جند ذلك الذى لم يراع حرمة النبوّة
.

هذا
الانتهار غنى عن التعليق، ولو أنه قد وردت بعد ذكر هذا الانتهار، العبارة التالية
على لسان الرب يسوع:

{
لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مِنْ أَيِّ رُوحٍ أَنْتُمَا! لأَنَّ اِبْنَ اَلإِنْسَانِ
لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ اَلنَّاسِ بَلْ لِيُخَلِّصَ }.

 

ج
– تصرّف يسوع عند إلقاء القبض عليه:

 

ثمّ
أن كشف يسوع لحقيقة الله بلغ ذروته حين إلقاء القبض عليه
.

ولكى
ندرك ذلك حف الادراك، ينبغى أن نضع أنفسنا مكان التلاميذ الذين شهدوا ذلك الحدث
المريع
.

 

هؤلاء
كانوا قد اكتشفوا بشقّ النفس، بعد مرافقة طويلة للمعلم، أنه ” المسيح”،
وعبّر بطرس عن هذا الاكتشاف فى الاعتراف الشهير الذى أدلى به أمام يسوع فى قيصرية
فيلبس
.

وقد
كانت صورة المسيح مقترنة فى الذهنية اليهودية التى نشأ عليها التلاميذ وتشبعوا
منه، كانت مقترنة بصورة الاقتدار الكلّى والجبرؤوت
.

فالمسيح،
بموجب هذه الذهنية، وإن لم يكن قد اتضح جليا بُعد أصله الإلهى، إنما كان يُعتبر
بحق مُمثل الله فى الأرض والمُنفذ الأسمى لمقاصده فى التاريخ
.

من
هن، الاعتقاد الشائع بأنه سيسود فى الأرض دون منازع لأن قدرة الله ستسحق الأعداء
تحت قدميه
.

لذا
لم يكن يؤبه لتلك المقاطع الغامضة من نبوءة أشعياء المتعلقة بشخصية ” خادم
الرب” وبغيرها من النبوءات المماثلة، التى كانت تصوّر المسيح على أنه ”
رجل أوجاع”، وبالعكس كانت تُبرز إلى الواجهة نصوص تؤخذ بمعناها الحرفى وهى
تتحدث عن عزة المسيح واقتداره الساحق: ” قال الرب لربى: اجلس عن يمينى حتى
أجعل أعداءك موطئا لقدميك
. عصا قوة يرسل لك الرب من صهيون فتسود فى
وسط أعدائك
. معك
الرئاسة يوم قوتك
. الرب عن يمينك يحطم فى يوم رجزه الملوك. يملأ الأرض
جثثا
.” إلخ.

 

تلك
هى بالضبط الصورة التى قفزت إلى أذهان التلاميذ عندما تيقنوا بأن يسوع هو المسيح
الرب
.

وإذا
بيسوع يدمّر هذه الصورة تدميرً، فيعلن المرة تلو المرة عن قرب آلامه وموته
.

والتلاميذ
لا يفهمون
.

وكيف
لهم أن يفهموا أن يفشل المسيح فى إقامة ملك ظاهر فى الأرض (ولو أنهم أخبروا أن هذا
الفشل سيتبعه ظفر قيامة كان معناها لا يزال مُغلقا عليهم)
.

مجرد
التفكير بفشل المسيح هذا كان يزعزع مجمل تصورهم عن الله، إذ كيف يُعقل أن يقبل
الله بفشل ممثله ومنفذ أوامره دون أن يزلزل الأرض بالمتآمرين ويسحقهم سحقا ويبيدهم
من أمام وجهه ” كما يباد الدخان وكما يذوب الشمع من أمام وجه النار”؟،،،

ثم
كيف يحتملون بأن تنسحب عزة الله ومسيحه عليهم، هم الأتباع المخلصون، إلى حدّ أنهم
شرعوا يتنافسون على المقامات والأمجاد العتيدة
.

 

لقد
كان إنباء يسوع المسيح عن إقتراب آلامه، وما تراءى لهم عبر هذا الإنباء من ضعف
ظاهرى لله نابع من احترامه المذهل لحرية المخلوق، لقد كان هذا الاعلان بمثابة صفعة
عنيفة لهم، فثار بطرس وزجر يسوع على كلامه هذ، فنال جوابا قاسيا وبّخه فيه المعلّم
على إنقياده إلى ” أفكار الناس” (الناس الذين تشوّهت فيهم صورة الله فلم
يعودوا قادرين على تصوّره بغير صورة الإله الساحق) دون ” أفكار الله”
.

لكنهم،
على ما يبدو، بقوا حتى اللحظة الأخيرة، ورغم انذارات يسوع المتكررة، متشبّثين
بتصوّراتهم عن المسيح وعن الله
.

لذا
فلا شكّ أنهم صُعقوا حين أتى الجند ليلاً ووضعوا اليد على مسيح الله دون أن تنشقّ
الأرض وتبتلعهم
.

وكأنى
بطرس، فى تلك اللحظة الرهيبة، يقوم بحركة يائسة يعبّر فيها عن مرارة انهيار
أحلامه، فيستلّ سيفه ويضرب به أحد خدّام رئيس الكهنة فيقطع أذنه
.

وإذا
بيسوع يعاتبه فى هذه المرة أيضا فيقول:

(رُدَّ
سَيْفَكَ إِلَى مَكَانِهِ. لأَنَّ كُلَّ اَلَّذِينَ يَأْخُذُونَ اَلسَّيْفَ
بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ! أَتَظُنُّ أَنِّي لاَ أَسْتَطِيعُ اَلآنَ أَنْ أَطْلُبَ
إِلَى أَبِي فَيُقَدِّمَ لِي أَكْثَرَ مِنِ اِثْنَيْ عَشَرَ جَيْشاً مِنَ
اَلْمَلاَئِكَةِ؟ فَكَيْفَ تُكَمَّلُ الْكُتُبُ: أَنَّهُ هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ
يَكُونَ؟
) (متى 6: 52 –
54]
.

وكأنه
يقول له: إن الله كلّى الاقتدار فعل، فهو قادر على إرسال أكثر من اثنتى عشر فيلقا
من الملائكة (والعد 12 إنما هو عدد الكمال ويشير بالتألى إلى قوة كاملة، فتكون
العبارة ” أكثر من اثنى عشر” إشارة إلى قوة فائقة الكمال) ليبيد أعدائى
وأعداؤه
.

ولكن
الله يعلو على اقتداره هذا لأنه محبة تحترم بصورة مذهلة، ” جنونية” (ذلك
هو ” الحبّ الجنونى” الذى تحدّث عنه مكسيموس المعترف ونقولا كاباسيلاس)،
حرية المحبوب، إلى حدّ القبول بمعاناة رفضه الكامل، القاتل، لها
.

 

من
هنا إننى لن أسأل أبى أن يتصرّف خلافا لحقيقته، وهذا هو معنى هتافى” لا كما
أنا أشاء، بل كما أنت تشاء”، ذلك الذى أطلقته فى بستان جسيمانى حيث عشت
المخاض العسير الذى عَبْرَه سَطعت فى إنسانيتى صورة الله على حقيقتها الناصعة
العجيبة
.

أضف
إلى هذه المواقف، موقف يسوع من المرأة التى أخذت فى زنى، وأتاه بها الكتبة
والفريسيون قائلين له: ” يا معلم، إن هذه المرأة أخذت فى الزنى المشهود وقد
أوصانا موسى فى الشريعة برجم أمثاله، فأنت ماذا تقول؟”
(راجع يوحنا
8: 1 – 11]. نرى أن يسوع رفض أن يغلق على هذه المرأة فى خطيئته، أن يختزلها به،
وبالتالى إنه حرّر الله من الصورة التى أُلصقت به، صورة الديان المنتقم
.

 

يقول
لاهوتيان كاثوليكيان بهذا الصدد:

. يتوجه يسوع
إلى المرأة كما إلى شخص مسؤول قادر أيضا أن يفعل الخير
. يسوع لا
يقبل أن يكون ذنب هذه المرأة الكلمة الأخيرة لحياتها
. يدعوها إلى
عيش شئ آخر
. يخرجها من
الصورة التى يرسمها عنها فعلها
. يخرجها من الدور الذى احتجزها فيه موقف
محيطها
. إنه يفتح
أمامها مستقبلاً: ” اذهبى ولا تعودى إلى الخطيئة”
.

بتحريره
المرأة الزانية، بمنحه، ما وراء خطيئته، فرصة جديدة للعيش، بصفحه عنه، يسوع، بآن
واحد، يحرر الله من صورة الآب الجالد والديان المنتقم
. يسوع لا
يُسلّم، إنه يُحرّر
. ينبغى أن لا ننسى أن يسوع، بالغة العبرانية،
يعنى ” الله يُخلّص”
.

 

ما
ينبغى التشديد عليه بهذا الصدد، أن سلوك يسوع هذا لم يكن قناعا سترالله به وجهه فى
يسوع المسيح فتراءى لنا به لفترة محددة عاد بعدها إلى ما يُفترض أنه كان عليه من
اقتدار قاهر، ساحق
.

إنما
قد عبّر هذا السلوك نهائيا عن وجه الله الحقيقى المتجلّى فى إنسانية يسوع المسيح
.

 من
هن،إنه لا يمكن أن تكون لنا معرفة صحيحة عن الله، معرفة لا تشوبها إسقاطاتنا
وهواماتن، إلا تلك التى نجنيها من رؤيتنا لإنسانية يسوع
.

 

بهذا
المعنى قال السيد:

(اَلَّذِي
رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ أَرِنَا الآبَ؟
) (يوحنا 14:
9]، وأيضا

(لَسْتُمْ
تَعْرِفُونَنِي أَنَا وَلاَ أَبِي. لَوْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي
أَيْضاً
) (يوحنا 8:
19]،

(وَالَّذِي
يَرَانِي يَرَى الَّذِي أَرْسَلَنِي
) (يوحنا 12:
45]،

(اَللَّهُ
لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ
هُوَ خَبَّرَ
)(يوحنا 1:
18]،

[كُلُّ
شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ اَلاِبْنَ إِلاَّ
اَلآبُ وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ اَلآبَ إِلاَّ اَلاِبْنُ وَمَنْ أَرَادَ اَلاِبْنُ
أَنْ يُعْلِنَ لَهُ]
(متى 11: 27]،

وعن
المسيح قال الرسول بولس أنه:
(اَلَّذِي هُوَ صُورَةُ اللهِ غَيْرِ
الْمَنْظُورِ، بِكْرُ كُلِّ خَلِيقَةٍ
) (كولوسى 1:
15]،

كما
قال أيضا:
(لأَنَّهُ
يُوجَدُ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اَللهِ وَاَلنَّاسِ:
اَلإِنْسَانُ يَسُوعُ اَلْمَسِيحُ
) (1 تيموثاوس
2: 5]
.

 

2
– بتعليمه:

ومما
يؤكد ذلك كون يسوع أيّد بتعليمه عن الله صحّة صورة الله التى تتجلّى فى سلوكه
الإنسانى
.

فمثلاً
نرى أن محبة الأعداء التى نادى يسوع بها اتخذت نموذجا لها سلوك الله نفسه، بحيث
تبين بأن الله ليس الإله المنتقم الذى يقابل الشر بالشر، بل هو ذاك الذى يُنعم
بخيراته على الأخيار والأشرار على حد سواء، ذاك الذى هو ” رحيم” أى واسع
القلب إلى حدّ أنه يشمل برحابة حبه الأبرار والأثمة:

(أَحِبُّوا
أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ وَصَلُّوا
لأَجْلِ اَلَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ لِكَيْ تَكُونُوا
أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ اَلَّذِي فِي اَلسَّمَاوَاتِ فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ
عَلَى اَلأَشْرَارِ وَاَلصَّالِحِينَ وَيُمْطِرُ عَلَى اَلأَبْرَارِ
وَالظَّالِمِينَ. لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ فَأَيُّ
أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ اَلْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ ذَلِكَ؟ وَإِنْ
سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ فَأَيَّ فَضْلٍ تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ اَلْعَشَّارُونَ
أَيْضاً يَفْعَلُونَ هَكَذَا؟ فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ
أَبَاكُمُ اَلَّذِي فِي اَلسَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ
) (متى 5: 44 –
48]
.

(بَلْ
أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ وَأَحْسِنُوا وَأَقْرِضُوا وَأَنْتُمْ لاَ تَرْجُونَ
شَيْئاً فَيَكُونَ أَجْرُكُمْ عَظِيماً وَتَكُونُوا بَنِي اَلْعَلِيِّ فَإِنَّهُ
مُنْعِمٌ عَلَى غَيْرِ اَلشَّاكِرِينَ وَاَلأَشْرَارِ.فَكُونُوا رُحَمَاءَ كَمَا
أَنَّ أَبَاكُمْ أَيْضاً رَحِيمٌ
) (لوقا 6: 35،
36]
.

 

ثانيًا:
المسيح يكشف لنا المعنى الحقيقى لعبارتى” الدينونة” و” غضب
الله”:

على
ضوء ما عرفناه من حقيقة الله فى سلوك يسوع المسيح وتعليمه، يتسنّى لنا أن ندرك
المعنى الحقيقى الكامن فى عبارتى ” الدينونة” و” غضب الله”،
اللتين كثيرًا ما تتكرّران فى الكتاب المقدس بعهديه، واللتين ينبغى بصددهما أن
نتجنب بحرص نوعين من الشطط لا يقلان خطرًا أحدهما عن الآخر:

شطط
تجاهلهما واستبعادهما من هواجسن، مما يؤول إلى تمييع صورة الله وبالتالى علاقتنا
به،

وشطط
تأويلهما تأويلاً بشريا بحتا لا يقيم الوزن الكافى لجدّة كشف المسيح لنا عن طبيعة
الإله الحق،

مما
يؤول إلى تشويه من نوع آخر نلحقه أيضا بصورة الله وبعلاقتنا به على حدّ سواء
.

 

1-
مفهوم ” الدينونة”:

ولنأخذ
أولاً مفهوم ” الدينونة”
.

إن
نصّا هاما من إنجيل يوحنا يوضح لنا كيف ينبعى أن نفهمها فى ضوء ما تلقيناه من كشف
عن حقيقة الله فى يسوع المسيح:

(لأَنَّهُ
هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ
يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ.

 لأَنَّهُ
لَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ ابْنَهُ إِلَى الْعَالَمِ لِيَدِينَ الْعَالَمَ بَلْ
لِيَخْلُصَ بِهِ الْعَالَمُ.

 اَلَّذِي
يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ لأَنَّهُ لَمْ
يُؤْمِنْ بِاسْمِ ابْنِ اللَّهِ الْوَحِيدِ.

 وَهَذِهِ
هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ وَأَحَبَّ
النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ
شِرِّيرَةً.

 لأَنَّ
كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ السَّيِّآتِ يُبْغِضُ النُّورَ وَلاَ يَأْتِي إِلَى النُّورِ
لِئَلا تُوَبَّخَ أَعْمَالُهُ
) (يوحنا 3: 16
– 20]
.

يتضح
من هذا النصّ أن ” الدينونة” ليست عقابا ينزله الله بالذين يخالفون
أوامره، بغية الاقتصاص منهم على ما فعلوه من شرور
.

فالله
لا يريد سوى خلاص الإنسان
.

إن
اقتداره الكلّى يتجلّى لا بالقمع والسحق – اللذان يراودان أحلامنا بالاقتدار،
بالضبط لأننا كائنات ضعيفة، محدودة وتحتاج، من أجل تأكيد قدرتها والتعامى عن هشاشة
هذه القدرة، إلى التسلّط على من هم أضعف منها – بل بكونه ” معطى الحياة”
(وإعطاء الحياة إنما هو أصعب ما فى الوجود، بدليل أن البشر الذين أضحوا قادرين على
إفناء الحياة عن وجه الأرض بأسلحتهم الفتاكة، لم يتوصلوا حتى الآن إلى ابتكار خلية
حية واحدة)
.

 

الله
محبة ونور وحياة ليس إلا:

(وَهَذَا
هُوَ الْخَبَرُ الَّذِي سَمِعْنَاهُ مِنَ الْمَسِيحِ وَنُعْلِنُهُ لَكُمْ: إِنَّ
اللهَ نُورٌ، وَلَيْسَ فِيهِ ظَلاَمٌ الْبَتَّةَ
) (1يوحنا 1:
5]
.

هذا
ما تجلّى بإرسال الحبيب إلى عالمنا: فقد أتى لا ليُهلك بلّ ليحيى:

[لأَنَّهُ
هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ
يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ
) (يوحنا 3:
16]
.

ومع
ذلك فإن النصّ يشير إلى ” دينونة”
.

فما
هى طبيعة هذه ” الدينونة” يا تُرى؟
.

العبارة
اليونانية التى تشير إلى ” الدينونة” فى العهد الجديد هى
KRISIS، والمدلول الأصلى لهذه العبارة فى اليونانية إنما هو التمييز.

فنور
الله ومحبته، إذا ظهر، يضطران الناس إلى إتخاذ موقف صريح منهم، يكون إما التجاوب
معهم ورفضهمأ
.

هكذا
يتميز الناس بعضهم عن بعض بموجب الموقف الذى يتخذونه
.

فالذين
يفتحون قلوبهم لنور الله ومحبته يصبحون مشاركين لحياة الله، وبالتالى فهم يقيمون
فى النور والفرح والحياة
.

أما
الذين ينغلقون دون نور الله ومحبته، فإنهم يجعلون أنفسهم خارج حياة الله، وبالتالى
فى عزلة وضيق وموت
.

 

من
هنا هذا التناقض الظاهرى فى النصّ
.

فمن
جهة يقال أن المسيح لم يأت إلى العالم ” ليدين العالم”، بمعنى أنه لم
يأت ليحكم عليه
.

ومن
جهة أخرى يشير النصّ إلى أن هناك ” دينونة” قائمة
.

ولكنه
واضح أن هذه ” الدينونة” ليست من باب المحاكمة القضائية، بل هى نتيجة
موقف يتخذه البشر من النور الذى جاءهم، فيتميزون بهذا الموقف بعضهم عن بعض، إذ
يجعلون أنفسهم إما من جهة النور ومن جهة الظلمة:

(وَهَذِهِ
هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ وَأَحَبَّ
النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ
شِرِّيرَةً.

 لأَنَّ
كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ السَّيِّآتِ يُبْغِضُ النُّورَ وَلاَ يَأْتِي إِلَى النُّورِ
لِئَلا تُوَبَّخَ أَعْمَالُهُ.

 وَأَمَّا
مَنْ يَفْعَلُ الْحَقَّ فَيُقْبِلُ إِلَى النُّورِ لِكَيْ تَظْهَرَ أَعْمَالُهُ
أَنَّهَا بِاللَّهِ مَعْمُولَةٌ
) (يوحنّا 3:
19 – 21]
.

 

الله
لا يريد إذًا سوى الخلاص
.

إنم،
من وضع نفسه بأعماله الشريرة خارج الخلاص، فقد حكم على نفسه بالعزلة والموت
.

بهذا
المعنى قيل فى النصّ:


من لا يؤمن به (بالمعنى الحقيقى للإيمان، الذى ليس هو مجرّد التصديق بل تسليم
النفس لله وتغيير القلب يتقبل فعله المحيى فينا) فقد دين”
.

وكأن
الله قد حكم عليه، لأن صيغة المجهول هن، كما فى مواضع أخرى من الإنجيل، تشير إلى
الله
.

فى
حين أن سياق النصّ يظهر أنه هو الذى دان نفسه بنفسه عندما واجه نور الله فرفضه
.

أما
من فتح قلبه على الخلاص منسجما وإياه بأعماله الصالحة، فهذا قد تقبّل فى ذاته حياة
الله وفرحه
.

عن
هذا يقول النص: ” من يؤمن به لا يدان”
.

والمقصود
أنه ينجو من حكم الموت الذى ينزله الأول بنفسه عندما يضع ذاته خارج نور الله
.

 

2-
مفهوم ” غضب الله”:

من
المنطلق نفسه نفهم ما هو المقصود بعبارة ” غضب الله” كما تقرأ فى المقطع
التالى من إنجيل يوحنّا:

(اَلَّذِي
يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ
لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ اللَّهِ
) (يوحنا 3: 36).

 

ليس
المقصود ب” غضب الله” أن محبّة الله تتحوّل فى وقت من الأوقات إلى رغبة
فى الانتقام ممن يخالف
.

بلّ
إن من يُغلق قلبه دون محبة الله المقدّمة له، هذا يجعل نفسه خارج المحبّة والحياة،
وبالتالى يصبح حبّ الله المرفوض منه تعذيبا له
.

 

فلنأخذ
مثلاً على ذلك من علاقاتنا الإنسانية
.

فقد
أختلف مع صديق عزيز على جدً، صديق أعتبره ” أنا الآخر”، إلى حد أننى
أقدم على الانفصال عنه، مدفوعًا برغبة فى تأكيد وجودى بمعزل عن هذا الصديق
.

هو
يتمنّى عودتى إليه
.

وأن،
فى قرارة نفسى، أشعر بأننى لن أكتمل بدونه وأحنّ بملء جوارحى إلى إعادة الصلة به
.

ولكننى
مع ذلك أتشبث بموقفى الرافض مقنعًا نفسى – وما أسهل بأن يخدع المرء نفسه – بأنه
خير لى أن أكون المرجع الوحيد لذاتى
.

فأعانى
عند ذاك من تمزّق أليم بسبب التعارض بين رغبتى العميقة فى لقاء الصديق وبين إصرارى
على أن تكون حياتى ملكا أحتفظ به لنفسى ولا أشارك به أحدً، على أن أوجد نفسى بنفسى
ولا أتلقى من سواى زخما من الوجود
.

فيتراءى
لى، وأنا فى خضمّ تمزّقى، أن محبّة صديقى لى قد تحوّلت بالنسبة إلىّ إلى عذاب
لأنها توقظ فىّ حنينا عميقا إلى التجاوب معه، حنينا يعذبنى لأننى لست مستعدًا
للانقياد إليه
.

 

تلك
هى أيضا مأساة الإنسان فى علاقته بالله
.

فالله
قد أحبّ الإنسان إلى حد أنه جعل فى قلبه ميلاً لا يُقهر إلى لقائه، ميلاً يعبّر
عنه عطش الإنسان إلى اللامتناهى وعجزه عن أن يروى غليله من خيرات الأرض مهما
توافرت وسمت
.

لكن
الإنسان مهدّد دوما بأن ينحرف عن خط توقه الأصيل هذ، الذى هو عطش إلى الله، فيُوهم
نفسه أنه بمقدوره أن يشبع هذا التوق بتركيزه على ذاته وحاجاتها بدل الانفتاح إلى
ذلك الآخر الذى يناديه والسعى إلى لقائه فى تجاوز حقيقى لذاته
.

هكذا
ينغلق على حياته الذاتية ويتشبّث بها وكأنه صانعها ومالكه، عوض أن يقبل بأن
يتلقاها من الله مصدرها وينبوعها فى إسلام للنفس إليه
.

عند
ذاك تتجمّد فيه الحياة وتتناقض، بسبب انقطاعها عن ينبوعها الدائم التدفق
.

فيتحقق
فى ذلك الإنسان كلام الله الوارد فى نبوءة إرميا:

[‏.تَرَكُونِي
أَنَا يَنْبُوعَ اَلْمِيَاهِ اَلْحَيَّةِ لِيَنْقُرُوا ‏لأَنْفُسِهِمْ آبَاراً
آبَاراً مُشَقَّقَةً لاَ تَضْبُطُ مَاءً
) (إرميا 2:
13]
.

فإذا
استمر الإنسان على هذه الحال، بقى فيه العطش إلى الله، إنم، بدل أن يتجه هذا
الإنسان إلى الينبوع الذى يستطيع وحده أن يروى غليله، فإنه يحاول أن يرتوى من
المياه الضحلة الآسنة التى اختزنها لنفسه
.

ليس
بوسعه أن يلغى ذلك العطش الذى يكوّنه كإنسان، ولكنه يحاول عبثًا أن يرتوى من ذاته،
أى من فراغه، فإذا به يلتهب بسعير عطشه الذى لا يجد الارتواء
.

إن
حقيقة جهنّم كامنة فى هذا التناقض الرهيب الناتج عن عطش لا متناهٍ يصرّ عبثا على
الارتواء من الفراغ
.

إنها
كامنة فى هذا التناقض، وليس فى تصوّر ينطلق من تفسير حرفى للنصوص الكتابية فيتخيل
إلها يقتصّ من البشر بتعذيبهم بالنار ويعطى عباده بالتالى ذريعة ليعاملوا الناس
بالمثل (كما فعل قضاة محاكم التفتيش الذين كانوا يسلمون الهراطقة للحرق، مما دفع
فولتير إلى التهكّم بهم قائلاً: إنهم كانوا يخفّفون عن الله بعضا من أعباء
مهمّته!!!)
.

 

الحقيقة
أن الإنسان يحترق من جرّاء حنينه إلى الله إذا انحرف هذا الحنين عن موضوعه الحقيقى
وحاول أن يرتوى من فراغ الذات المنقطعة عن ربها المنهمكة برغائبها الأنانية الضيقة
.

عند
ذاك يتحوّل الحب الإلهى الذى أيقظ ولا يزال يوقظ هذا الحنين إلى لعنة ووبال، لا من
جرّاء تغيير طرأ على موقف الله من الإنسان، بلّ بسبب رفض ذلك الإنسان للحب المقدّم
له ومحاولته الاكتفاء بذاته
.

فإذا
بالحب الإلهى نفسه يتخذ بالنسبة إلى ذلك الإنسان قناع الغضب، وبدلاً من أن يكون
مصدر فرح له يصبح مصدر عذاب
.

 

لقد
كتب اللاهوتىالأرثوذكسى الفرنسى المعاصر ” أوليفيه كليمان”:


قد لا تكون جهنّم سوى هذه المواجهة بين العطش والفراغ، الإنسان يشرب من فراغه
الذاتى فيتزايد إلتهابه باستمرار”
.

 

وقد
كتب القديس اسحق السريانى بهذا الشأن:


الحب يعمل بطريقتين مختلفتين، فإنه يصبح عذابا فى الهالكين وفرحا فى
المطوَّبين”
.

 

ولكن
ما ترى يكون موقف الله من ذلك الإنسان الذى يتشبث بالارتواء اللاهب من فراغه؟
.

هل
يكون موقف المتفرّج الذى لا يؤثر المشهد فى غبطته اللامتناهية؟
.

لقد
شاعت فى تراثنا صورة الإله اللامنفعل، ولكنها برأيى صورة يونانية أكثر منها مسيحية
.

إذ
ليس هذا هو وجه الله كما تعرّفنا عليه فى يسوع المسيح
.

فقد
عرفنا أن الله محبة، والمحبة لا بدّ لها أن تشارك المحبوب فى معاناته
.

لنعد
إلى مثل الصديق العزيز الذى انفصلنا عنه، فغدونا نحترق فى عزلتنا المميتة، يلهبنا
حنين إليه نمعن فى تجاهله
. ويبقى الصديق متفرّجا علين، أم أنه على
العكس يتحرّق عندما يرانا نحترق؟
.

ثم
ألم يقدّم لنا الرسول بولس عناصر الجواب عندما هتف:
(من يضعف ولا
أضعف أنا؟ من يعثر ولا ألتهب أنا؟]
.

أفيكون
الرسول أفضل من مرسله؟
.

أتكون
المحبة أقوى فى البشر مما هى عند ذاك الذى هو ينبوع المحبة وزارعها فيهم؟
.

إذا
كان الله محبة، فلا بدّ أن للألم مكانا فى كيانه، ولو كان يصعب علينا أن نتصوّر طبيعة
هذا الألم
.

هذا
ما يكشفه اللاهوت المعاصر فى ضوء مآسى إنسانية اليوم، مستندًا إلى عناصر مغيّبة من
صلب التراث
.

قد
يكون أحد الفوارق بين ألم الله وألمنا أننا كائنات ضعيفة فانية، بحيث أننى إذا
تألمت لصديقى فإن ألمى هذا يمتزج لا محالة بالحسرة على نفسى وعلى مآسىّ وفنائيتى
.

أما
الله اللامحدود، الذى لا يقوى الموت عليه ولا تطاله صروف الدهر، فإنه، إذا تألم
لألم الإنسان، فإنه إنما يتألم من أجل هذا الإنسان وحسب
.

فيكون
ألمه خالص، خاليًا من كل انطواء على الذات
.

 

ومن
الإشارات الكتابية التى نستدل يها على ألم الله هذ، أذكر تلك الحادثة من سيرة
” داود” الملك
.

فقد
ثار عليه ابنه ” أبشالوم” واستولى على الحكم، فاضطر داود إلى الهرب من
أمام وجهه ذليلاً مهانا
.

ثم
جرت موقعة حاسمة انهزم فيها جيش ” أبشالوم” وقُتل فيها هذا الأخير على
يد أحد قادة ” داود”، رغم ما كان الملك قد أوصى به جميع قادته بأن
يرفقوا بالفتى
.

فلما
بلغ الخبر إلى ” داود”، وقع عليه وقع الصاعقة:

(فَانْزَعَجَ
اَلْمَلِكُ وَصَعِدَ إِلَى عِلِّيَّةِ اَلْبَابِ وَكَانَ يَبْكِي وَيَقُولُ وَهُوَ
‏يَتَمَشَّى: { يَا اِبْنِي أَبْشَالُومُ، يَا اِبْنِي يَا اِبْنِي! أَبْشَالُومُ،
يَا لَيْتَنِي مُتُّ ‏عِوَضاً عَنْكَ! يَا أَبْشَالُومُ اِبْنِي يَا اِبْنِي }‏
) (2 صموئيل
18: 33]
.

 

داود
يبكى لموت ولده بلوعة تنمّ عن حنو عجيب
.

إنه
يبكى على ذاك الذى ثار عليه وطرده من ملكه
.

ولا
يكتفى بالبكاء بلّ يودّ لو أنه مات عوضا عن ذاك الذى أدّى به رفضه لأبيه إلى الموت
.

ولكن
الله قد سبق فقال عن داود أنه:

(اِنْتَخَبَ
اَلرَّبُّ لِنَفْسِهِ رَجُلاً حَسَبَ قَلْبِهِ
) (1 صموئيل
13: 14]
.

لقد
إخطأ ” داود” وضلّ ولكنه، تحت وطاة الألم الذى عصره، تبلورت فيه صورة
الله المشار إليها فى الآية أعلاه فتحقق فيه الشبه الذى تشير إليه بين قلبه وقلب
الله
.

من
هنا أن سلوك ” داود” عند مقتل ابنه، هذا السلوك الذى تكشف فيه أفضل ما
فى الأبوة البشرية عندما تتوهّج هذه الأبوة فترتسم فيها صورة أبوة الله، إن ”
داود” هذا يوحى لنا بموقف الله من الذين يختارون الهلاك باختيارهم الانفصال
عنه
.

يقول
أحد اللاهوتيين المعاصرين بهذا الصدد

أن
صيحة ” داود” المفجوع إنما هى الصيحة التى يطفح بها قلب الله عندما يرى
أبناءه يختارون الموت فى رفضهم لحبه،،،، وأن الله إنما يقول، بلسان ”
داود” شبيهه: أنه يريد أن يموت بدلاً عن أبنائه المتمردين
.

 

هذا
ما انكشف لنا تماما فى يسوع المسيح الذى بصليبه أدركنا أن همّ الله ليس أن يُلقى
الخطأة فى الجحيم بلّ أن ينحدر إلى جحيم الخطأة ليحرّرهم منه
.

 


غضب الله” غذً، كما فهمناه فى يسوع المسيح، هو الوجه الذى يتخذه الإله المحبّ
فى نظر الذين يرفضون حبه وحياته سعيا وراء سراب الاكتفاء بذواتهم
.

هذا
المفهوم الإيجابى ل ” غضب الله”، ترجمه يسوع المسيح فى سلوكه عندما كان
يتصرّف بغضب حيال قادة شعبه، من كتبة وفريسيين، الذين كانوا يتذرعون بالله نفسه
ليتمادوا فى أهوائهم فيتخذون من شريعة الله حجّة للاستعلاء على الناس، وإلقاء
الأعباء الساحقة عليهم إرضاء لشهوة الحكم فيهم
.

غضب
يسوع حيال هؤلاء لا يحمل طابع البغضاء ولا يُقصد منه التدمير بلّ إيقاظ تلك النفوس
الغارقة فى سباته، المرتاحة إلى برّها الظاهرى، كما يرتاح المدمن إلى مخدّره،
المتشبثة باكتفائيتها إلى حدّ أنه لم يعد بوسعها أن تدرك الفقر الداخلى المريع
الذى جلبته عليها هذه الاكتفائية
.

لقد
كان غضب يسوع يُقصد منه أن تُصدم تلك النفوس فتراجع ذاتها وتعيد النظر فى ما
ارتاحت إليه، علّها تكتشف طريق التحرّر والحياة
.

أما
كون هذا الغضب كان يُبطن الرأفة والرجاء، فهذا ما تُظهره صلاة يسوع على الصليب من
أجل صالبيه:

(يَاأَبَتَاهُ
اِغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ
) (لوقا 23:
34]
.

وكذلك
فهو يتبين فى ما ورد فى مثل الابن الشاطر حيث نرى الأب (وهو يمثل الله) يخرج إلى
الابن الأكبر المستاء من عودة أخيه الضال إلى أحضان أبيه (والابن الأكبر يمثل استعلاء
الفريسيين)
.

يخرج
إليه ويلاطفه ويحاول أن يوقظ قلبه من تحجره
.

وينتهى
المثل عند هذا الحدّ دون أن نعرف جواب الابن الأكبر على سعى أبيه، وكان يسوع، الذى
روى هذا المثل أمام الفريسيين المعتزّين ببرّهم، المحتجّين على معاشرته للخطأة،
كانه يُلقى الكرة فى ملعبهم ويترك لهم الجواب، راجيا حتى النهاية أن تنتصر قوى
المحبة فى قلوبهم على قوى الانعزال والموت
.

 

ثالثًا:
كيف نفهم حادثة سدوم وعمورة؟:

استنادًا
لما سبق، نستطيع الآن أن نتمعّن فى الحادثة التى يرويها الكتاب المقدس عن تدمير
سدوم وعمورة، وأن نتساءل كيف يمكننا أن نفهم هذه الرواية فى ضوء ما عرفناه عن الله
فى يسوع المسيح
.

 

1-
الرواية الكتابية:

لن
نذكر هنا تفاصيل الحادثة كما وردت فى سفر التكوين، إنما نكتفى بما نجده من وصف
لتدمير المدينتين:

(فَأَمْطَرَ
اَلرَّبُّ عَلَى سَدُومَ وَعَمُورَةَ كِبْرِيتاً وَنَاراً مِنْ عِنْدِ اَلرَّبِّ
مِنَ اَلسَّمَاءِ. قَلَبَ تِلْكَ ‏اَلْمُدُنَ وَكُلَّ اَلدَّائِرَةِ وَجَمِيعَ
سُكَّانِ اَلْمُدُنِ وَنَبَاتَِ اَلأَرْضِ. وَنَظَرَتِ اِمْرَأَتُهُ مِنْ
وَرَائِهِ فَصَارَتْ ‏عَمُودَ مِلْحٍ! وَبَكَّرَ إِبْرَاهِيمُ فِي اَلْغَدِ إِلَى
اَلْمَكَانِ اَلَّذِي وَقَفَ فِيهِ أَمَامَ اَلرَّبِّ وَتَطَلَّعَ نَحْوَ ‏سَدُومَ
وَعَمُورَةَ وَنَحْوَ كُلِّ أَرْضِ اَلدَّائِرَةِ وَنَظَرَ وَإِذَا دُخَانُ
اَلأَرْضِ يَصْعَدُ كَدُخَانِ اَلأَتُونِ ‏‏]
(تكوين 19:
24- 28]
.

 

2
– كيف نفهم اليوم هذه الحادثة؟:

أ
– واقع الحادثة:

الرواية
تستند إلى واقعة حدثت فعل، وهى عبارة عن زلزلة مدمّرة ” قَلَبَ تِلْكَ
‏اَلْمُدُنَ وَكُلَّ اَلدَّائِرَةِ..”
.عقبها على
الأرجح حريق ” فَأَمْطَرَ
. كِبْرِيتاً وَنَاراً. وَإِذَا
دُخَانُ اَلأَرْضِ يَصْعَدُ كَدُخَانِ اَلأَتُونِ “
.

وبالاستناد
إلى النصّ الكتابى، يمكن تحديد موقع الزلزلة فى المنطقة الجنوبية من البحر الميت
.

والواقع
أن هناك هبوطًا حاصلاً فى تلك المنطقة يعود إلى حقبة حديثة العهد بالنسبة لعمر
طبقات الأرض
.

هذا
وقد بقيت المنطقة عرضة للهزات الأرضية حتى العصر الحديث
.

 

ب
– تأويل الحادثة فى الكتاب:

 

والحال
أن الأقدمين كانوا ينسبون كل ظاهرة طبيعية إلى الله مباشرة، لكونهم لم يكونوا قد
أدركوا بعد دور الأسباب الطبيعية البحتة
.

فالرعد
صوت الله: ” اَلرَبّ أَرْعَدَ مِنْ السَمَاء واَلْعَلِىّ أَطْلَقَ
صَوْتَه”،

والبرق
نباله: ” أرْسَلَ اَلنِبَال فَشَتَّتَهُم، ضَاعَفَ اَلبِرُوقَ
فَشَرّدَهُم”،

وهو
يطلق الرياح المخزونة فى خزائنه
. إلخ.

من
هنا أنه كان من الطبيعى أن ينسبوا هذا الزلزال لعمل الله بالذات
.

فقد
قالت المزامير: ” اَلْذِى يَنْظُرُ إِلَى اَلأرْضِ فَيَجْعَلَهَا تَرْتَعِدْ
وَيَمِسَّ اّلجِبَالِ فَتُدَخّنْ”
.

الكتاب
المقدس كلام الله مكتوب بأسلوب بشرى يحمل طابع الزمان والمكان اللذين قيل فيهما
.

 

من
جهة أخرى، فأن أهل سدوم وعمورة كانوا مشهورين بممارستهم الشذوذ الجنسى المتمثل
بالجنسية المثلية، أى الشهوة المتجهة نحو أشخاص من الجنس نفسه
.

من
هنا أن هذا الشذوذ تسمّى بعد ذلك باسمهم، فدُعِى ” سدومية” (وقد دُعى
أيضا ” لواطية” نسبة للوط الذى كان ساكنا فيما بينهم)
.

وقد
كان الشذوذ مكروها حدًا عند اليهود:

(لاَ
تُضَاجِعْ ذَكَراً مُضَاجَعَةَ اِمْرَأَةٍ. إِنَّهُ رِجْسٌ
) (لاويين 18:
22
).

وكان
يُعاقب عندهم بالموت:

(إِذَا
اِضْطَجَعَ رَجُلٌ مَعَ ذَكَرٍ اِضْطِجَاعَ اِمْرَأَةٍ فَقَدْ فَعَلاَ ‏كِلاَهُمَا
رِجْساً. إِنَّهُمَا يُقْتَلاَنِ. دَمُهُمَا عَلَيْهِمَا‏
) (لاويين 20:
13]
.

وقد
أضاف أهل سدوم إلى هذا الشذوذ الجنسى عدوانية جعلتهم لا يراعون حرمة الضيافة
فيطالبون لوط بتسليم الرجلين (رسولى الله) اللذين باتا عنده بغية اغتصابهما
.

ولما
رفض الاستجابة لطلبهم همّوا باقتحام البيت لاختطافهما
.

 

من
هنا نشأ التصوّر بأن الكارثة التى حلت بسدوم وعمورة إنما كانت عقابا أرسله الله
للاقتصاص من شر أهل المدينتين
.

 

ج
– ما يمكن أن نفهمه اليوم، بالهام الروح، من هذه الحادثة:

 

بقى
أن نتساءل كيف يمكننا اليوم أن نفهم النصّ الكتابى حول تدمير سدوم وعمورة؟
.

إن
الروح نفسه هو الذى ألهم فى الماضى لرواة الحادثة الكتابية معانى روحية تتجاوز
التصوّرات الأسطورية التى غُلّفت به، هو نفسه يرشدنا اليوم إلى فهم أفضل للنص
الكتابى المتعلّق بهذه الحادثة، فى ضوء الكشف الذى تلقيناه بيسوع المسيح
.

 

ما
يمكن أن نفهمه نحن اليوم، إذا ما طالعنا هذا النصّ، هو أن شرور الإنسان تعطّل صورة
الله فيه وبالتالى تدمّر إنسانيته، ماديا ومعنوي، تلك الإنسانية التى لا تستقيم
ولا تنتعش إلا إذا كانت صورة الله محورًا لها ودافعا وموجّها
.

 

د
– كيف نفهم ما يُروى عن تحوّل امرأة لوط:

 

أما
تحوّل إمرأة لوط إلى نُصُب من ملح
..

إنما
قد تبنت كلمة الله هذا التفسير الرمزى لتحمّله معنى روحيا يمكن تلخيصه كما يلى:

كان
لوط متنقلاً من سكناه بين الأشرار إلى أرض جديدة، مما يوحى بانتقال من وضع العتاقة
إلى وضع التجدّد، من الظلام إلى النور
.

من
هنا إن إلتفات إمرأته إلى الوراء فى مسيرته نحو الله، يتوقف نموّه الروحى، يتجمّد
روحيا لأن حنينه إلى الماضى يشلّ انطلاقته ويجهضها
.

هذا
ما ندركه بشكل أفضل فى ضوء كلمة الرب يسوع المسيح:

(لَيْسَ
أَحَدٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى اَلْمِحْرَاثِ وَيَنْظُرُ إِلَى اَلْوَرَاءِ يَصْلُحُ
لِمَلَكُوتِ اَللهِ
) (لوقا 9: 62].

 

الخلاصة

برأيى
أن أفضل خلاصة لهذا البحث، إنما هى فى هذا المقطع من إنجيل لوقا الذى ينقل إلينا
بعضا من توصيات الرب يسوع المسيح إلى تلاميذه عندما أرسلهم للتبشير، خاصة وأن هذا
المقطع يأتى على ذكر مصير سدوم، قال يسوع:

(وَأَيُّ
بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ فَقُولُوا أَوَّلاً: سَلاَمٌ لِهَذَا الْبَيْتِ.

فَإِنْ
كَانَ هُنَاكَ ابْنُ السَّلاَمِ يَحِلُّ سَلاَمُكُمْ عَلَيْهِ وَإِلاَّ فَيَرْجِعُ
إِلَيْكُمْ.

وَأَقِيمُوا
فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ آكِلِينَ وَشَارِبِينَ مِمَّا عِنْدَهُمْ لأَنَّ الْفَاعِلَ
مُسْتَحِقٌّ أُجْرَتَهُ. لاَ تَنْتَقِلُوا مِنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْتٍ.

وَأَيَّةُ
مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَقَبِلُوكُمْ فَكُلُوا مِمَّا يُقَدَّمُ لَكُمْ

وَاشْفُوا
الْمَرْضَى الَّذِينَ فِيهَا وَقُولُوا لَهُمْ: قَدِ اقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ
اللهِ

وَأَيَّةُ
مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَلَمْ يَقْبَلُوكُمْ فَاخْرُجُوا إِلَى شَوَارِعِهَا
وَقُولُوا:

حَتَّى
الْغُبَارُ الَّذِي لَصِقَ بِنَا مِنْ مَدِينَتِكُمْ نَنْفُضُهُ لَكُمْ. وَلَكِنِ
اعْلَمُوا هَذَا أَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ اللهِ.

وَأَقُولُ
لَكُمْ إِنَّهُ يَكُونُ لِسَدُومَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حَالَةٌ أَكْثَرُ
احْتِمَالاً مِمَّا لِتِلْكَ الْمَدِييَة
) (لوقا 10: 5
– 12]
.

من
هذا النصّ، ومن العبارات التى أبرزتها فيه ويتّضح الوجه الذى به يطلّ الله على
الأخيار والأشرار على حدّ سواء، إنما هو الوجه نفسه، وجه المحبة التى لا حدّ له،
تلك المحبة التى لا تعطى سوى الحياة، والتى سبق للنبى حزقيال أن قال عنها:

(هَلْ
مَسَرَّةً أُسَرُّ بِمَوْتِ اَلشِّرِّيرِ يَقُولُ اَلسَّيِّدُ اَلرَّبُّ؟ أَلاَ
بِرُجُوعِهِ عَنْ ‏طُرُقِهِ فَيَحْيَا؟
. ‏ حَيٌّ أَنَا يَقُولُ
اَلسَّيِّدُ اَلرَّبُّ، إِنِّي لاَ أُسَرُّ بِمَوْتِ اَلشِّرِّيرِ، بَلْ بِأَنْ
يَرْجِعَ ‏اَلشِّرِّيرُ عَنْ طَرِيقِهِ وَيَحْيَا
) (حزقيال 18:
23، 33: 11]
.

لذلك
يُكلّف الرب يسوع المسيح التلاميذ بتبليغ الأخيار والأشرار على حدّ سواء نفس
الرسالة ” قَدِ اقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ اللهِ “
. وهى بحدّ
ذاتها رسالة مفرحة إلى أبعد حدّ (إنها تختصر الإنجيل، وعبارة ” إنجيل”
تعنى، كما هو معروف، ” بشرى”)
.

ذلك
لأن ” ملكوت الله”، أى أن يملك الله فى الأرض فيغيره، يعنى بالنسبة
للإنسان الوعد بالنور والحياة والفرح والحرية
.

(وَقَالَ
لَهُمُ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مِنَ الْقِيَامِ هَهُنَا قَوْماً لاَ
يَذُوقُونَ الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوْا مَلَكُوتَ اللَّهِ قَدْ أَتَى بِقُوَّةٍ
)(مرقس 9: 1،
لوقا 9: 27]
.

أى
ما نحياه الآن وهو ما يُعرف ب ” الملك الألفى” بالمفهوم الروحى لكنيستنا
الأرثوذكسية
.

ولكن
هذا الملكوت عينه قد يكون نعمة ونقمة للإنسان الذى يواجهه
.

دون
أن يعنى ذلك البتة أن تغييرًا ما يحصل فى طبيعة ملكوت الله من حال إلى حال أخرى
.

فهو
أبدًا ملكوت الحياة والفرح، وليمة المحبة التى لاتنتهى،
(لأَنْ هَا
مَلَكُوتُ اللهِ دَاخِلَكُمْ
) (لوقا 17:
21]
.

فهو
نعمة للذين يتقبّلونه فيشاركون الله فى حياته عبر هذا التقبّل
.

ونقمة
للذين يديرون له الظهر، إذ لأنه يثير فى هؤلاء حنينا لا قِبَلَ لهم على إزالته
لأنه مكوّن لكيانهم، ولا قِبَلَ لهم، من جهة أخرى، على إروائه طالما هم متحجّرون
فى رفضهم للحب الذى يدعوهم
.

إن
رفضهم لهذا الحب، ورفضهم فقط يحوّله بالنسبة إليهم من ندى منعش إلى نار لاهبة
شبيهة بتلك التى أحرقت سدوم
.

 

مجمل
الكلام أن الله لا يقتل فى سبيل التأديب، ولا فى هذه الدنيا ولا فى الآخرة
.

إنما
الإنسان قد خُوّل هذا السلطان الرهيب بأن يطعن قلب الله فى الصميم بإصراره على
اختيار الموت بدل التجاوب مع نداء الحبّ المجانى الموجه إليه
.

أى
يحيا مصرًا على التجديف على الروح القدس
.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى