اللاهوت الدفاعي

سلامة العهد الجديد



سلامة العهد الجديد

سلامة العهد
الجديد

قال المعترض الغير مؤمن: الكتب المقدسة غير موحى بها من الله، وتوجد فيها الاختلافات الكثيرة،
إما بسبب التحريف القصدي، أو بسبب سهو الكاتب ,

وللرد نقول بنعمة الله : الكتب المقدسة منزَّهة عن الاختلاف والتناقض لأنها وحي الله الذي ليس
عنده تغيير، فلا يُثبِت الله اليوم شيئاً ثم ينسخه غداً,
قال الله: كل الكتاب هو موحى به من الله، ونافع للتعليم والتوبيخ، للتقويم
والتأديب الذي في البر (2تيموثاوس 3: 16), ولا يعقل أن من آمن بالله وباليوم الآخر
يفتري على كتبه المقدسة ويصف بعضها بالكذب أو الاختلاف,

(1) على أن من طالع الكتب المقدسة بروح التواضع للاستفادة، وطرح عنه رداء
التعسُّف وجدها منزَّهة عن التشويش والاضطراب والاختلاف والتناقض، وتيقن من
توافقها وتطابقها, وعندما يرى أن أنبياء الله ظهروا في مدة 1600 سنة وفي بلاد
مختلفة وبعيدة عن بعضها، ينذهل من وحدة غايتهم ومن توافق ديانتهم، ولا يسعه سوى
الخضوع لكلامهم والاعتقاد بأنه وحي إلهي, فلو كان مصدر الكتب المقدسة من البشر
لوجد فيها اختلافاً وتناقضاً، فالفلاسفة الذين درسوا في معهد واحد يناقض الواحد
الآخر في مذهبه وتفكيره، وكذلك المؤرخون والكتّاب ينقض الواحد ما يثبته الآخر،
بخلاف كتب الوحي، فمثل العهد القديم والعهد الجديد كمثل الكاروبين (خروج 25: 20)
وجهاهما كل واحد إلى الآخر، وأيضاً كان وجهاهما نحو الغطاء, فالأنبياء والرسل
استقوا من ينبوع واحد، فلا عجب إذا اتفق الواحد مع الآخر في التعاليم والمبادئ
والنبوات, لا ننكر أنهم اختلفوا في الأسلوب وطرق التعبير، إلا أن الأخلاقيات
والتعاليم والمبادئ واحدة، فأحد الأنبياء زاد شرحاً عن غيره، ولكن لا يوجد في
أقوالهم أدنى تناقض, كلهم أجمعوا على فساد الطبيعة البشرية، وأنه لا يمكن مصالحتنا
مع الله إلا بواسطة كفارة المسيح، ولا يمكن العودة إلى حالة الطهارة والقداسة إلا
بعمل الروح القدس فينا, فاتحادهم على هذه التعاليم من أقوى الأدلة على أن مصدر
كلامهم هو العليم الحكيم, ولكن إذا أتى شخص وشذ عنهم كان كاذباً,

(2) لا يُعقل أن أهل الكتاب يعمدون إلى تحريف كتبهم الإلهية مع تأكدهم بأن
هذه الكتب هي مصدر غبطتهم وسعادتهم وراحتهم وامتيازاتهم, بل لو فعلوا ذلك لزجرهم
الأنبياء الذين كانوا يظهرون من جيل إلى آخر في مدة 1600 سنة, ولكن لم يفعل نبي
ذلك دلالة على حرصهم على المحافظة عليها,

(3) ولكن ماذا نقول في محمد الذي كان يناقض نفسه بنفسه، فكان يأمر بالشيء
ثم ينهى عنه, أمر بإظهار الرفق بالناس ثم أمر بقتلهم، وهو الذي جعل قِبْلته أولًا
مثل قِبْلة المشركين، ثم جعلها نحو قِبْلة اليهود، ثم غيّرها نحو قِبْلة المشركين,
وهو الذي كان يمدح آلهة المشركين ثم يذمها، ويحرّم على نفسه بعض النساء ثم ينكث
عهده, ولما وصفه أهل الكتاب والعرب بالتقلّب والتردد في أموره، تخلّص من معارضتهم
بأن وضع قانوناً في كتابه بأن الاختلاف والتناقض جائز في الأفعال والأقوال،
وسمَّاه النسخ فقال: ما ننسخ من آية أو نُنْسها نأت بخير منها أو مثلها , (البقرة
2: 106) هذا فضلًا عن المناقضات المذكورة في القرآن والأحاديث، وهي ليست قاصرة على
المعاملات، بل تشمل العبادات, وغاية ما أجابوا به على ذلك هو تخفيف وتشديد، وهذا
التفسير يستلزم أن الله يأمر بأمرين متباينين وأنه ذو إرادتين ومشيئتين، وأن له
شريعتين, وحاشا لله من ذلك! والقرآن ذاته يسلّم بوجود الاختلافات، بل ذلك هو ركن
من أركان الإسلام,

(4) ولا يصح الحكم على شيء بالخطأ إلا بعد معرفة الصواب، فهل وجد خطأ في
كيفية عمل الله للدنيا في ستة أيام، أو في خلق الإنسان، أو في تواريخ ابراهيم
وأخنوخ ونوح ويوسف وموسى وبني إسرائيل وسائر الأنبياء؟ ألم ير أن جميع علماء
الدنيا اقتبسوا معلوماتهم عن هذه الأمور من الكتاب المقدس؟ والقرآن ذاته اقتطف
طرفاً من هذه التواريخ وقال إنها من وحيه, أو هل رأى في هذه الكتب المقدسة أن
نبياً من أنبياء الله مدح الأوثان وتقلّب في الأديان؟

(5) يعتقد جميع المسيحيين أن كتبهم المقدسة هي بإلهام الروح القدس ووحيه,
قال الإنجيل: لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من
الروح القدس (2بطرس 1: 21), وإذا سردنا ما ورد في الكتاب المقدس من الآيات الباهرة
الدالة على أن شريعة الله هي كاملة وأنها بإلهام الروح القدس، وجب أن نكتب مجلدين
كبيرين, وعليك أن تنظر في مزمور 119 الذي يشتمل على 176 آية تتحدث عن كمال ناموس
الله، وأنه بإلهام الروح القدس, فكل مسيحي يعتقد من صميم فؤاده أن كتابه هو الوحي
الإلهي، وإلا لما كان يتعبد بتلاوته آناء الليل وأطراف النهار,

(6) لا يجسر أحد على أن يحذف شيئاً أو يزيد عليه شيئاً، وقد أنذر الله
قائلًا: إن كان أحد يزيد على هذا يزيد الله عليه الضربات
المكتوبة في هذا الكتاب، وإن كان أحد يحذف من أقوال كتاب هذه النبوة يحذف الله
نصيبه من سفر الحياة، ومن المدينة المقدسة، ومن المكتوب في هذا الكتاب

(رؤيا 22: 18 و19), فمن يقبل هذه الضربات وهو يعرف أنه لا يستفيد أدنى فائدة من
عمله هذا؟ على أن الحذف والزيادة مستحيلان لأن أئمة الدين الذين يعدون بعشرات
الألوف حافظوا على هذه الكتب، وهم يعرفون أنهم إذا حرّفوا أو بدّلوا سقطوا عن
مقامهم وحُرموا من امتيازاتهم,

(7) أما القرآن فهو بخلاف ذلك من وجوه عديدة، منها:

(أ) إن كاتبه كان رجلًا أمياً لا يعرف القراءة والكتابة، وكثيراً ما كان
يغيّر أقواله ويبدلها,

(ب) إنه كُتب مفرّقاً في 25 سنة، ولابد من ضياع جانب كبير منه,

(ج_) إنه كُتب في عسب وعلى العظام، والله أعلم كم ضاع وكم بقي منه,

(د) إنه لم يكن في عصره رجال مخصوصون لحفظ الكتب الإلهية,

وعلى هذا لما رأى عثمان استفحال الشر، جمع ما جمعه، فزاد وحذف
وحرّف وبدّل وغيّر، وأحرق باقي المصاحف, فكان للكثير من الصحابة مصاحف مختلفة،
وبصرف النظر عن هذه العيوب فلا يجوز أن نقول إن القرآن هو موحى به من الله لأنه
يخالف طريقة الله التي وضعها من الأول

 

سلامة الكتاب المقدس من الاختلافات

أوحى
الله بكلمته لتكون هداية للبشر تقودهم إلى الخلاص والأبدية السعيدة، ولا يمكن أن
يترك وحيه ليعبث به الأشرار والمفسدون. ونوضح في هذا الفصل سلامة العهد الجديد
دينياً وتاريخياً.

1 –
سلامته الدينية

تتضح
سلامة العهد الجديد دينياً من الحقائق التالية:

(1)
تحقَّقت نبوات العهد القديم في العهد الجديد:

أوحى
الله بالعهد القديم إلى موسى النبي وغيره من أنبياء بني إسرائيل، ويتمسك به اليهود
الذين إلى يومنا لا يؤمنون بالمسيحية. والعهد القديم مليء بالرموز والنبوات عن
المسيح، وولادته العذراوية، واسم الأسرة التي يولد منها، والبلدة التي يولد فيها.
وتدل تلك النبوات أيضاً على أعماله وصفاته، وموته كفارة عن البشر وقيامته، وغير
ذلك من الأمور الخاصة به. وبمضاهاة هذه النبوات وتطبيق تلك الرموز على ما ورد في
الإنجيل عن المسيح، نرى أنها كلها تنطبق عليه كل الانطباق.

فمن
جهة شخصيته قارن مثلاً إشعياء 9: 6 مع لوقا 1: 32، 33. ومن جهة ولادته العذراوية
قارن إشعياء 7: 14 مع لوقا 1: 31 ومن جهة الأسرة التي يولد منها قارن ميخا 5: 2 مع
متى 1: 2، 3، 2: 5، 6 ومن جهة أعماله وتصرفاته قارن إشعياء 42: 1-9 مع متى 12:
14-21. ومن جهة موته كفارة قارن إشعياء 53 مع يوحنا 10: 11. ومن جهة قيامته من
الأموات قارن مزمور 16: 10 مع متى 28: 6 الأمر الذي يدل على عدم حدوث أي تحريف في
الإنجيل.

وقد
قام عالِم الرياضيات الأمريكي «بيتر ستونر» بحساب نسبة تحقيق أيَّة 48 نبوَّة (وهي
التي يمكن حساب نسبة تحقيقها رياضياً) بطريق الصدفة، فوجد أن لها فرصة واحدة من
بين عدد واحد أمامه 181 صفراً من الفُرص. فمن المستحيل أن يكون تحقيق تلك النبوات
بطريق الصدفة!

(2)
حرَّض الوحي على التمسُّك الشديد بكل آياته، وأنذر كل من يزيد عليها أو يحذف منها:

أمر
الله بخصوص آياته: «اربِطها على قلبك دائماً. قلِّد بها عنقك. إذا ذهبت تهديك. إذا
نِمت تحرسك. وإذا استيقظت فهي تحدِّثك» (أمثال 6: 21، 22) وأمر أيضاً: «لتكن.. على
قلبك.. وقُصَّها على أولادك. وتكلَّم بها حين تجلس في بيتك، وحين تمشي في الطريق،
وحين تنام، وحين تقوم. اربِطها علامة على يدك، ولتكُن عصائب بين عينيك. واكتُبها
على قوائم أبواب بيتك، وعلى أبوابك» (تثنية 6:6-9). وأيضاً: «لا تمِل عنها يميناً
أو شمالاً لكي تفلح حيثما تذهب. لا يبرح سفر هذه الشريعة من فمك، بل تلهج فيه
نهاراً وليلاً، لكي تتحفَّظ للعمل حسب كل ما هو مكتوب فيه» (يشوع 1: 7، 8). كما
أمر: «ولا تزيدوا على الكلام.. ولا تنقصوا منه، لكي تحفظوا وصايا الرب إلهكم التي
أنا أوصيتكم بها» (تثنية 4: 2) و«كل الكلام الذي أوصيكم به، احرصوا لتعملوه. لا
تزد عليه ولا تُنقِص منه» (تثنية 12: 32) وحذَّرهم: «إن كان أحد يزيد على هذا (أي
كتاب النبوَّة) يزيد الله عليه الضربات المكتوبة في هذا الكتاب. وإن كان أحد يحذف
من أقوال كتاب هذه النبوَّة، يحذف الله نصيبه من سفر الحياة» (رؤيا 22: 18، 19).
فبعد كل هذه التحذيرات لا يمكن لمسيحي أن يحذف كلمة من الكتاب المقدس أو يضيف أخرى
إليه.

(3)
رحَّب المسيحيون بالاضطهاد في سبيل التمسُّك بما جاء في الإنجيل:

لو أن
المسيحيين الأوائل حرفوا آية من الآيات الخاصة بشخصية المسيح أو موته الكفاري
نيابةً عن البشر (وهما أهم موضوعات الكتاب المقدس) لما كانوا يُعرِّضون أنفسهم
للاضطهادات القاسية التي كانت تحل بهم منذ القرون الأولى، من اليهود والوثنيين على
السواء. فليس هناك عاقل يعرِّض نفسه للاضطهاد بسب أمرٍ زوَّره واختلقه، أو في سبيل
أمر يشك في تزويره أو صحته!

وقد
أشار الأستاذ عباس محمود العقاد إلى هذه الحقيقة فقال: «ومن بدع (أهل) القرن العشرين
سهولة الاتهام كلما نظروا في تاريخ الأقدمين فوجدوا في كلامهم أنباء لا يسيغونها
وصفات لا يشاهدونها ولا يعقلونها. ومن ذلك اتهامهم الرسل بالكذب فيما كانوا
يثبتونه من أعاجيب العيان أو أعاجيب النقل. ولكننا نعتقد أن التاريخ الصحيح يأبى
هذا الاتهام، لأنه أصعب تصديقاً من القول بأن أولئك العُداة أبرياء من تعمُّد
الكذب والاختلاق. فشتان بين عمل المؤمن الذي لا يبالي بالموت تصديقاً لعقيدته،
وعمل المحتال الذي يكذب ويعلم أنه يكذب، وأنه يدعو الناس إلى الأكاذيب. مثل هذا لا
يُقدم على الموت في سبيل عقيدة مدخولة، وهو أول من يعلم زيفها وخداعها. وهيهات أن
يوجد بين الكذبة العامدين من يستبسل في نشر دينه كما استبسل الرسل المسيحيون. فإذا
كان المؤلف الصادق من يأخذ بأقرب القولين إلى التصديق، فأقرب القولين أن الرسل لم
يكذبوا في ما رووه، وفي ما قالوا إنهم رأوه، أو سمعوه ممن رآه» (كتاب «عبقرية
المسيح» ص 118 و189).

(4)
اتَّفق كتَبَة الإنجيل في كل ما كتبوه:

 (أ)
وجود أربعة كتب لأشخاص مختلفين (من جهة العُمر والثقافة والطباع والجنسية) عن سيرة
المسيح، أفضل جداً للباحثين عن الحقيقة مما لو كان هناك كتاب واحد عن سيرته.

(ب)
إن اتفاق الشهود في حادثة ما، من جهة كل لفظ فيها، مدعاة للطعن في شهادتهم بدعوى
التواطؤ، بينما اختلافهم في اللفظ دون المعنى دليل على صدق شهاداتهم.

(ج)
كان كتَبة الإنجيل على درجة سامية من القداسة والأمانة وإنكار الذات، حتى استطاعوا
التأثير على كثيرين من اليهود والوثنيين، فصرفوهم عن أهوائهم وشهواتهم المتعددة،
وقادوهم إلى حياة الطاعة لله والتوافق معه في صفاته السامية.

أما
ما يُقال عنه «اختلاف بين كتبة الإنجيل» الذي يتَّخذه البعض دليلاً على حدوث تحريف
فيه (كما يدَّعون) فهو اختلاف لفظي فحسب، وأسبابه:

(أ)
أن كل واحد من البشيرين الأربعة كتب على انفراد.

(ب)
وأنه كتب إلى جماعة تختلف عن الجماعات التي كتب إليها الآخرون من جهة الثقافة
والعادات.

(ج)
كما أنه كتب إلى جماعته عن ناحية من نواحي شخصية المسيح، رأى بإرشاد الله ضرورة
توجيه أنظارهم إليها بصفة خاصة. فقد كتب متى لليهود موضحاً تحقيق النبوات في
المسيح، وكتب مرقس للرومان منبِّراً على سلطان المسيح، وكتب لوقا للوالي ثاوفيلس
مبرزاً رقَّة مشاعر المسيح، وكتب يوحنا عن لاهوت المسيح.. وهذا الاختلاف ليس
اختلاف التعارض، بل تنوُّع التوافق والانسجام. وهذا يبرهن لنا أنه لا مجال للقول
بحدوث اختلاف في الإنجيل.

ويقول
الأستاذ عباس محمود العقاد: «إذا اختلطت الروايات في أخبار المسيح، فليس في هذا
الاختلاط بدع، ولا دليل قاطع على الإنكار، لأن الأناجيل تضمَّنت أقوالاً في
مناسبتها لا يسهل القول باختلافها، لأن مواطن الاختلاف بينهما معقولة مع استقصاء
أسبابها والمقارنة بينها وبين آثارها. كما أن مواضع الاتفاق بينهما تدل على أنها
رسالة واحدة من وحي واحد» (كتاب «عبقرية المسيح» ص 88-90 و«الله» ص 149 و154
و194).

إنه
إنجيل واحدٌ إذاً، موضوعه الخبر المفرح الواحد أن المسيح جاء إلى أرضنا فادياً
ومخلَّصاً، هو النبي وموضوع النبوات، وهو الرسالة والرسول، وهو الكلمة والمتكلم.

(5)
صدَّق العهد الجديد على كل ما جاء بالعهد القديم:

(أ)
كانت التوراة موجودة في أيدي اليهود قبل مجيء المسيح بمئات السنين، وكانت هناك
نسخٌ منها في الهيكل والمجامع والمدارس الدينية. وكان الكهنة واللاويون يقدسون هذه
النسخ كل التقديس ويحافظون عليها بكل دقة وعناية (تثنية 31: 9 و2ملوك 22: 8).
وكانت هناك أيضاً نسخ منها في أيدي القضاة والملوك وأتقياء اليهود والكتبة
والفريسيين والناموسيين (تثنية 17: 18) وكان هؤلاء جميعاً يواظبون على قراءتها كل
يوم، كما كانوا يعرفون عدد آياتها وكلماتها وحروفها، بل وأيضاً عدد المرات التي
تستعمل فيها كل كلمة وكل حرف.

(ب)
بسبب خوف اليهود الشديد من التعرُّض لقضاء الله المريع إذا حدث خطأ ما في كتابة
التوراة، كانوا لا يعهدون بنسخها إلا لفئة خاصة من رجال الدين الملمّين بها. وكان
هؤلاء الكتَبة يصلّون كثيراً قبل قيامهم بعملهم هذا حتى لا يخطئوا. وإذا وصلوا إلى
كتابة اسم الجلالة كانوا يكتبونه بقلم خاص غير الذي يكتبون به بقية النص. وعندما
يفرغون من كتابة التوراة، كانوا يسلّمونها إلى غيرهم للمراجعة، فيراجعونها كلمة
كلمة. ولكي لا يكون لديهم شك في دقة المراجعة كانوا يُحصون عدد كلمات التوراة
المكتوبة وعدد حروفها وعدد كل نوع من الحروف أيضاً، ويطابقون كل ذلك على النسخة
الأصلية. فإذا وجدوا أخطاء قليلة في المخطوطة صوَّبوها. أما إذا وجدوا أخطاء كثيرة
فكانوا يحرقونها.

(ج)
صدَّق المسيح وتلاميذه على العهد القديم، فكانوا يقتبسون في أقوالهم الكثير مما
ورد في التوراة من نبوّات وشرائع، حتى بلغ ما اقتبسوه من هذه وتلك نحو مئتي آية.
وهذا يبرهن أنه لا يمكن أن تكون التوراة قد تحرَّفت. ولما كان قدامى العلماء يثقون
كل الثقة أن التوراة هي أقوال الله، وأنها لم تتعرض لأي تحريف، كانوا يواظبون على
تلاوتها.

 

2 –
سلامته التاريخية

كلمة
«الإنجيل» معرّبة عن الكلمة اليونانية «إفانجيليون» ومعناها «البشارة» أو «الخبر
السار»، لأنه يعلن للملأ محبة اللّه العظيمة للخطاة وموت المسيح كفارةً عنهم، حتى
لا يهلك كل من يؤمن به منهم إيماناً حقيقياً، بل تكون له الحياة الأبدية (يوحنا 3:
16).

وقبل
الرد على الدعوى بحدوث تحريف في الإنجيل، نقول: إنه من الممكن لأي إنسان أن يتّهم
آخر بما يشاء من تُهم، لكن إذا لم يستطع إثباتها بأدلة مقنعة، يكون اتهامه باطلاً.
فمن الواجب على القائلين بحدوث تحريف في الإنجيل أن يذكروا (1) الآيات التي أصابها
التحريف، وكيف كانت قبل تحريفها. (2) أسماء الذين قاموا بالتحريف، ومتى قاموا به،
وما هي غايتهم منه. (3) كيف استطاعوا أن يقوموا بالتحريف، مع العلم أنه كان يوجد
منذ القرن الثاني آلاف النسخ من الإنجيل في بلاد متفرقة وبلغات متعددة، الأمر الذي
يتعذر معه إجراء تحريف فيها جميعاً. (4) وأخيراً أن يذكروا الطريقة التي لجأ إليها
المحرِّفون ليُخْفوا التحريف المزعوم، حتى لم يستطع اكتشافه إلا المعترضون، بعد
مئات السنين من حدوثه. وبما أن المعترضين اكتفوا بالاتّهام دون ذكر الأدلة التي
تثبته، يكون اتهامهم باطلاً.

ونوجِّه
للمعترضين مجموعة أسئلة: لمصلحة من كان يحدث التحريف، لو أنه حدث؟ من هو المستفيد
من التحريف؟ هل قدَّم المسيح لأتباعه رشوة ليكتبوا عنه حقائق غير صحيحة؟

ومن
جانبنا نورد هنا خمسة أدلةّ تبرهن سلامة الإنجيل من الناحية التاريخية.

(1)
لم يعترض معاصرو المسيح ومن جاءوا بعدهم في القرون الأولى على شيء مما ورد فيه:

(أ)  كان الإنجيل قد أخذ في
الانتشار شفوياً بعد صعود المسيح إلى السماء بعشرة أيام، وذلك بين سكان أورشليم
الذين عاصروا المسيح وعرفوا كل شيء عنه (أعمال 2: 7-11) دون أن ينهض واحد منهم
لمناقضة شيء مما جاء فيه. وبعد ذلك انتشر الإنجيل في مدة لا تتجاوز ثلاث سنوات في
كثير من بلاد الشرق والغرب بلغات سكانها. وكان معظم هؤلاء بسبب انتشار الثقافة
اليونانية وقتئذ بينهم، لا يقبلون الأخبار إلا بعد فحصها وتمحيصها من كل الوجوه
(اقرأ مثلاً أعمال 19: 8-12 و17-34). وبالرجوع إلى التاريخ لا نرى أحداً قد اتّهم
المبشرين بالإنجيل بتحريفٍ أو تزويرٍ ما.

(ب)  رغم أن اليهود والوثنيين
كانوا يتهكّمون منذ القرن الأول على عبادة المسيحيين وعقائدهم، لروحانيتها وسموّها
فوق الإدراك البشري، إلا أنهم لم يتّهموهم على الإطلاق بأنهم حذفوا شيئاً من
إنجيلهم، أو أضافوا إليه شيئاً آخر.

(ج)
لم يكن للفلاسفة الذين اعتنقوا المسيحية في القرون الأولى، واشتهروا بالبحث
والمناقشة رأي واحد في عقائد المسيحية فانقسموا وقتئذٍ إلى فرقٍ متعددة، لاختلافهم
في شرح بعض آيات الإنجيل. وكان كل فريق منهم يعادي الفريق الآخر ويسند إليه شتى
التّهم. ومع ذلك لم يُسند فريق منهم إلى غيره جريمة إجراء تزوير في الإنجيل الذي
يعتمد عليه في البحث والمناقشة.

(2)
انتشر الإنجيل كتابةً دون تنقيح بين الناس الذين عاصروا المسيح، وتُرجم إلى لغات
متعددة ابتداءً من القرن الثاني:

(أ)
بعد نشر الإنجيل شفوياً في كثير من بلاد الشرق والغرب أخذ يُرسَل تباعاً ابتداءً
من منتصف القرن الأول مكتوباً في كتب، بواسطة أشخاص عرفوا كل شيء عن المسيح. إما
في هيئة سيرة تفصيلية له (كما فعل متى ومرقس ولوقا ويوحنا) أو في هيئة شرح لمبادئه
وتعاليمه (كما فعل بولس وبطرس ويعقوب وغيرهم)  دون أن يقارن بعضهم ما كتبه
على ما كتبه الآخرون، ممّا يدل على نزاهتهم وعدم وجود أي تواطؤ بينهم، وقيام كلٍّ
منهم بكتابة الإنجيل بالاستقلال عن صاحبه.

(ب)
كان هؤلاء الأشخاص يختلفون أحدهم عن الآخر اختلافاً كبيراً لا يسمح لهم بالاتفاق
على أمرٍ ما،

إلا إذا كان هذا
الأمر حقيقة ملموسة لديهم جميعاً. فمتّى كان محاسباً حريصاً، ومرقس شاباً متحمساً،
ولوقا طبيباً مدققاً، ويوحنا شيخاً رزيناً هادئاً، وبولس كان فيلسوفاً متعمقّاً،
وبطرس جريئاً جسوراً، ويعقوب خبيراً محنّكاً. وبينما كان لوقا الطبيب يونانياً
يتمتع بدرجة عظيمة من الثقافة وحرية الفكر، كان معظم الآخرين من اليهود، واليهود
متزمّتون دينياً، لا يميلون بطبيعتهم للدراسة أو التأليف. كما أنه لم يكن يخطر
ببال واحدٍ من هؤلاء جميعاً أن ما كتبه عن المسيح سيكون كتاب المسيحية المقدس الذي
سيتناقله الناس في كل العصور والبلاد، حتى كان يجوز الظن أن أحدهم لجأ في كتابته
إلى شيء من الموضوعات المستحدَثة، أو أضاف إلى سيرة المسيح شيئاً أو حذف منها
شيئاً آخر، لتجيء حسب نظره ملائمةً لطبائع البشر جميعاً. بل كان الغرض الوحيد
أمامهم أن يدوّنوا سيرة المسيح وتعاليمه كما عرفوها، ليستفيد الذين لم يسمعوا عنها
من معاصريهم.

وبعد
ذلك كُتب الإنجيل في آلاف النسخ، وتُرجم إلى لغات متعددة ابتداءً من القرن الثاني،
لفائدة الذين اعتنقوا المسيحية من اليهود والوثنيين، الذين كانوا يتكلمون بهذه
اللغات في البلاد المختلفة، وليُتلى في اجتماعات العبادة لديهم. فكان كثيرون
يحفظون ما جاء فيه عن ظهر قلب، كما شهد يوستينوس وترتليان في القرن الثاني.

 وكتابة الإنجيل في آلاف
النسخ، وترجمته إلى لغات متعددة، وانتشاره في بلاد مختلفة، وحفظ كثيرين ما جاء به
عن ظهر قلب – كل ذلك يجعل إجراء أي تحريف في كل نسخة أمراً مستحيلاً
.

(3)
كُتب الإنجيل على ورق البردي أو جلد الغزال:

لم
يُكتب الإنجيل على أحجار أو عظام، كما كانت تُكتب الحوادث والسير القديمة (حتى كان
يجوز الظن أن بعض هذه المواد قد تآكل أو ضاع)  بل كتبوه في كتب من ورق البردي
وجلد الغزال بكل دقة وعناية. ثم نسخه الذين أتوا بعدهم على ورق البردي وجلد الغزال
أيضاً، كما كان يفعل اليونان والرومان قديماً بكتبهم الهامة، الأمر الذي لا يدع
مجالاً للظن بضياع جزء من الإنجيل وكتابة غيره بدله.

(4)
لم تُحرَق النسخ الأصلية للإنجيل:

لم
يتعمد أحدٌ أن يحرق أو يتلف النسخ الأصلية من الإنجيل، كما حدث مع بعض الكتب
القديمة التي أراد فريق من الناس أن يخفوا شيئاً مما جاء فيها لغرضٍ في نفوسهم،
حتى كان يُظنّ أن الإنجيل الذي عندنا الآن ليس هو الإنجيل الحقيقي. بل إن هذه
النسخ ظلت موجودة كما هي، ونُقلت عنها ابتداءً من القرن الثاني نسخٌ كثيرة لا تزال
باقية إلى الآن.

(5)
حافظ المسيحيون القدماء حتى على الأناجيل المزيفة، بل ونشروها:

لم
يحرق المسيحيون الأولون الكتب التي ألّفها أصحاب البدع عن المسيح، في الفترة
الواقعة بين أواخر القرن الثاني وأواخر القرن الرابع  (لترويج بِدعهم، وأطلقوا
على كل منها زوراً اسم
»الإنجيل«) بل أبقوها كما
هي، بسبب ثقتهم المطلقة في صدق الإنجيل الذي بين أيديهم. بل إن المسيحيين طبعوا
كتب البدع ونشروها بلغات كثيرة، مراعاةً لمبدأ حرية الرأي، ليفسحوا المجال أمام
الناس في كل العصور للمقارنة بين ما جاء في هذه الكتب، وبين ما جاء في الإنجيل
الذي في أيديهم، الأمر الذي يدل على أمانتهم ونزاهتهم وعدم جواز اتّهامهم بإجراء
أي تحريف في الأناجيل.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى