علم الخلاص

لماذا الصليب بالذات؟



لماذا الصليب بالذات؟

لماذا الصليب بالذات؟

الأنبا بيشوى

 

لماذا إختار السيد المسيح أن يموت مصلوباً؟

لماذا لم يمت السيد المسيح بالحرق؟

لماذا لم يمت بالغرق؟

لماذا لم يمت بطعنة الحربة؟

لماذا لم يمت بالخنق أو بالشنق؟

لماذا لم يمت مذبوحاً بالسيف؟

 

لماذا الصليب؟

إن الصليب عمق يتعلق بمفاهيم ومعانٍ فى خطة الله
لخلاص الإنسان. فمعلمنا بولس الرسول يقول “إن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة
وأما عندنا نحن المخلصين فهى قوة الله” (1كو1: 18). لذلك لم يكن الصليب
مجرد وسيلة للإعدام.

الصليب روحياً:

 الصليب
يدخل فى أعماق مشاعر الإنسان وفكره الروحى وأبعاد عمل الروح القدس فى داخله. فقد
كان الصليب بالنسبة للقديسين هو موضوع عناق قوى فى علاقتهم بالله. وهو
موضوع تأمل وممارسة حياة يومية. هو قوة الله للخلاص. فالصليب له معان تدخل إلى
أعماق النفس بقوة الروح القدس حتى ولو لم يدرك الإنسان تلك المعانى. الصليب هو قوة
وغلبة وإنتصار وحياة بالنسبة لنا. فلماذا إذاً؟

لماذا مات المسيح مصلوباً:

1 – بالصليب صار هو الكاهن والذبيحة:

لم يكن السيد المسيح هو مجرد ذبيحة قُدِّمت عن
حياة العالم لكنه كان هو الكاهن وهو الذبيحة فى آنٍ واحد. فإذا كان قد تم
ذبحه على الأرض مثلاً؛ سيكون فى هذا الوضع ذبيحة وليس كاهناً. ولكن على الصليب هو
يرفع يديه ككاهن وهو فى نفس الوقت الذبيح المعلّق. فالناظر إليه يراه ككاهن يصلى
وفى نفس الوقت يراه ذبيحاً ويقول “فصحنا أيضاً المسيح قد ذبح لأجلنا”
(1كو 5: 7). هو يشفع فى البشرية أثناء تقديمه لذاته كذبيحة. لذلك رآه يوحنا الحبيب
فى سفر الرؤيا مثل “خروف قائم كأنه مذبوح” (رؤ5: 6).

الجرح الداخلى أعمق:

كان لابد أن يكون السيد المسيح قائماً؛ فلا
يمكنه أن يكون ملقى أثناء ممارسته لعمله كرئيس للكهنة. لذلك فإن عملية الذبح كانت
داخلية (بالرغم من وجود جراحات مثل آثار المسامير وإكليل الشوك) لكن الجرح
الأساسىكان داخلياً. وهنا تظهر نقطة عميقة فى محبة الله، وهى تتمثل فى شخص السيد
المسيح أنه مذبوح فى داخله كما يقول بولس الرسول “فى أحشاء ربنا يسوع
المسيح” (فى1: 8) فالذبح الداخلى أصعب بكثير من الذبح الخارجى وفى هذا يقول
الشاعر:

وظُلم ذوى القُربى أشد مضاضة على النفس من وقع
الحُسام المُهندِ
فوقع السيف الحاد أخف
من ظلم ذوى القرابة. ويقول الكتاب فى هذا المعنى “ما هذه الجروح فى يديك؟!
فيقول هى التى جُرحت بها فى بيت أحبائى” (زك13: 6).

النزيف الداخلى:

السياط التى جُلد بها السيد المسيح كانت مصنوعة
من سيور البقر وفى أطرافها عظم أو معدن، لذلك فقد مزّقت الشرايين المحيطة بالقفص
الصدرى وأحدثت نزيفاً داخلياً. فلما ضربه الجندى بالحربة كان الدم عندئذ
يملأ القفص الصدرى فسال الهيموجلوبين الأحمر بلون الدم ثم البلازما الشفافة ثم
السوائل الخاصة بالأوديما (أى الإرتشاح المائى). هذه التى عبّر عنها ببساطة القديس
يوحنا أنه بعدما طعن فى جنبه بالحربة “خرج دم وماء” (يو19: 34).
وقد رأى القديس يوحنا مركبات الدم مفصولة لأن السيد المسيح كان قد أسلم الروح فى
الساعة التاسعة وعندما طعنه الجندى قرب الغروب كان قد مضى حوالى ساعتين.

 

 مات
ذبيحاً:

إهتم القديس يوحنا أن يذكر واقعة خروج الدم
والماء لكى يؤكّد أن السيد المسيح مات ذبيحاً. ويقول و”الذى عاين شَهِد
وشهادته حق” (يو19: 35). كانت رقبة السيد المسيح سليمة نسبياً والصدر سليم
نسبياً بحسب الظاهر خارجه بينما كان النزيف حاد من الداخل. فى الخارج كانت تظهر
آثار ضربات السياط، بالإضافة إلى الجروح التى كانت فى اليدين والقدمين، وقد أحدثت
نزيفاً خارجياً لكنه محدود. فالمصلوب كان يمكن أن يبقى معلقاً على الصليب ويتعذب
وقد لا يموت إلا بعد ثلاثة أيام. ولكن كان يهّم القديس يوحنا الإنجيلى جداً أن
يؤكّد أن السيد المسيح هو خروف الفصح الذى ذُبح لأجلنا، لذلك أكَّد نزول الدم
والماء من جنبه لكى نعرف أنه ذُبح.

 

سبب الهبوط فى القلب:

 النزيف
الداخلى الحاد الذى تعرَّض له السيد المسيح نتج عنه أن كمية الدم الباقية فى
الدورة الدموية كانت بسيطة جداً. لذلك إحتاج القلب أن يعمل بسرعة لتعويض الدم
المفقود. ولكى يعمل بسرعة، كان القلب نفسه كعضلة، يحتاج لكمية أكبر من الدم. ولكن
الشرايين التاجيّة التى تغذّى القلب لم يكن فى إمكانها أن تقوم بهذا الدور لقلة
كمية الدم الواصل إليها نتيجة للنزيف. وإذا كانت سرعة ضربات القلب فى الإنسان
الطبيعى هى سبعين نبضة فى الدقيقة ففى حالات النزيف ترتفع إلى 140 نبضة. وكل هذا
يجهد عضلة القلب فتصل إلى مرحلة الهبوط الحاد جداً فى الجزء الأيمن منها ويؤدى ذلك
إلى الوفاة.

 

صرخة الإنتصار:

 كان
السيد المسيح يقترب من هذه اللحظة الأخيرة؛ وهنا

وفى
آخر لحظة صرخ بصوت عظيم وقال “يا أبتاه فى يديك أستودع روحى
(لو23: 46). وقد كانت هذه الصرخة هى صرخة إنتصار. لإنه لأول مرة منذ سقوط أبينا
آدم من الفردوس يستطيع أحد أن يقول “فى يديك أستودع روحى” فكل من مات لم
يستطع أن يستودع روحه فى يدى الآب بل كان إبليس يقبض على تلك النفوس. وإذ صرخ
السيد المسيح بصوت عظيم رغم حالة الإعياء الشديدة التى كان يعانى منها إنما أراد
بذلك أن يلفت النظر إلى عبارة الإنتصار هذه. وهذه هى أول مرة منذ سقطة آدم يضع ذو
طبيعة بشرية روحه فى يدى الآب.

صار السيد المسيح هو القنطرة أو الجسر الذى يعبر
عليه المفديون من الجحيم إلى الفردوس وإلى ملكوته. وقد خاب أمل الشيطان فى هذه
اللحظة لأنه رأى أمامه قوة الذى إنتصر بالصليب. وفى قداس للقديس يوحنا ذهبى الفم
يقول:
]عندما
إنحدرت إلى الموت أيها الحياة الذى لايموت حينئذ أمتَّ الجحيم ببرق لاهوتك. وعندما
أقمت الأموات من تحت الثرى صرخ نحوك القوات السمائيون أيها المسيح الإله معطى
الحياة المجد لك
[. فقد أبرق السيد المسيح حينما سلّم روحه
فى يدى الآب. وبتعبير آخر: أصبح كالبرق وأفزع كل مملكة الشيطان.

أخفى السيد المسيح لاهوته عن الشيطان وكان يقول
“نفسى حزينة جداً حتى الموت” (مر14: 34).كان يجاهد ويأتى ملاك ليقويه فى
الصلاة من أجل إخفاء لاهوته عن الشيطان ولكن فى اللحظة التى أسلم فيها روحه على
الصليب؛ أى عندما غادرت روحه الإنسانية الجسد، فى الحال أبرق بمجد لاهوته، لذلك
يقول “إذ جرّد السلاطين أشهرهم جهاراً ظافراً بهم فيه (فى الصليب)” (كو2:
15). فقد تحوّل الموقف تماماً وكأن الشيطان يقيم حفلاً أو وليمة وأحضر معه كل
بوابات الجحيم وكل قوات الظلمة لتحيط بمنطقة الجلجثة فوقف أمامه من “خرج
غالباً ولكى يغلب” (رؤ6: 2) ففزعت من أمامه كل هذه القوات حينما أبصرت مجد
لاهوته.

 

2- بالصليب كان هو الميت القائم:

كان لابد أن يكون المسيح هو الذبيحة التى ذبحت
وهى
تصلى أى وهى قائمة. فبعدما مات وسلّم الروح على
الصليب كان المشهد فى غاية العجب: إنه ميت وقائم فى نفس الوقت. ذلك لأن
المعلّق على الصليب تحمله رجلاه، لذلك عندما جاءوا ليكسروا ساقى السيد المسيح
وجدوه قد أسلم الروح فلم يكسروهما فهو واقف على قدميه فعلاً، وقد سلم الروح وهو
واقف، وهذه إشارة إلى أنه فى أثناء موته هو القائم الحى. ليس معنى هذا أنه لم يمت
حقاً لكن هذا رمز إلى أن “فيه كانت الحياة” (يو1: 4). فهو
قد أسلم الروح لكن قوة الحياة كائنة فيه. وحتى وهو قائم من بين الأموات كان
محتفظاً بالجراحات لكى نراه مذبوحاً وهو قائم. أى أنه وهو مذبوح: هو قائم، وهو
قائم: هو مذبوح. كما ورد أيضاً فى سفر الرؤيا أنه “خروف قائم كأنه مذبوح
(رؤ5: 6). فلا يمكن إذاً أن يُحرق أو يموت غريقاً لأن هذه المعانى لن تتفق فى هذه
الميتات.

 

3- بالصليب صالح الأرضيين مع السمائيين:

هل السيد المسيح يمثل الله فى وسط البشر أم يمثل
البشر
أمام الله؟ بالطبع هو الأمران معاً فى وقت واحد.
هو إبن الله وهو إبن الإنسان فى نفس الوقت. بدون التجسد كان السيد
المسيح سيبقى إبناً لله والبشر هم أبناء الإنسان. ولكنه فى تجسده وحّد البنوة لله
مع البنوة للإنسان إذ صار هو نفسه إبناً لله وإبناً للإنسان فى آنٍ واحد. وأراد أن
يجعل هناك صلة بين الله والبشر.

 

متى تصل الصلة إلى ذروة هدفها؟

 تصل
الصلة بين الأرض والسماء إلى ذروتها على الصليب. فإن كان السيد المسيح وهو إبن
الله الوحيد قد صار بالميلاد إبناً للإنسان لكنه لم يصل بالميلاد وحده إلى عمل
علاقة بين الله والبشر… فهو يريد أن يصالح الله مع البشر. فليس هناك شركة بين
الله والإنسان إلا بيسوع المسيح وهو معلَّق على الصليب. فهو الله الظاهر فى الجسد،
وهو باكورة البشرية فى حضرة الآب السماوى، والسلم الواصل بين السماء والأرض.

عندما ننظر إلى السيد المسيح على الصليب نقول
هذا هو الطريق المؤدى إلى السماء وهو نفسه يقول “أنا هو الطريق والحق
والحياة” (يو14: 6). كل إنسان ينظر إلى ناحية الصليب لابد أن ينظر ناحية
السماء “وكما رفع موسى الحية فى البرية هكذا ينبغى أن يُرفع إبن
الإنسان” (يو3: 14) فلابد أن الناظر إليه ينظر إلى أعلى. هو معلق بين
السماء والأرض. فحينما نراه نرى فيه الله الظاهر فى الجسد ونرى حب الله المعلن
للبشرية. وفى نفس الوقت حينما يراه الآب من السماء يرى فيه الطاعة الكاملة ورائحة
الرضا والسرور التى إشتمّها وقت المساء على الجلجثة. إذاً هو نقطة لقاء بين
نظرنا نحن ونظر الآب السماوى.
فالآب ينظر إليه؛ فإذا نظر كل منا إلى السيد
المسيح فسوف يلتقى بالآب. بتعبير آخر إذا كنت واقفاً بجوار الصليب والآب ينظر من
السماء إلى الصليب فسيراك أنت تحته وإذا أنت نظرت إلى الرب يسوع سترى الآب الذى
يتقبل الذبيحة.

 

4- الصليب والأنا المبذولة:

 علامة
الصليب تشير إلى الأنا المبذولة أو الطاعة الكاملة. فإذا أردنا شطب أو إلغاء أى خط
نضع خطاً متعارضاً مع الخط المراد إلغاءه. فالصليب فى حد ذاته يُعلن حياة التسليم
الكامل لله.كما أن السيد المسيح فى مظهره على الصليب كان واقفاً وأما فى الحقيقة
فقد كان كل جزء فى جسده مقيداً لا يستطيع أن يتحرك. معنى هذا أن السيد المسيح يريد
أن يقول لنا إنه لابد من “صلب الجسد مع الأهواء والشهوات” ونقول
مع المسيح صلبت فأحيا لاأنا بل المسيح يحيا فىّ” (غل 20: 2).

تسمّرت على الصليب كل أهواء الجسد ومشيئته
الخاصة. لم تكن للسيد المسيح طبعاً رغبات خاطئة حاشا، لكن كانت له رغبات طبيعية
مثل الأكل والشرب والراحة. فقد جاع عندما صام مثلاً. ورغبات الجسد هذه غير خاطئة
فى حد ذاتها. لكن كانت مشيئة الآب السماوى بالنسبة للسيد المسيح هى أن تبطل هذه
الرغبات، فكانت الطاعة الكاملة هى الجواب. لذلك عندما أتى الشيطان ليجرِّبه
وهو جائع وقال له “قل للحجارة أن تصير خبزاً” أجابه السيد المسيح
أنه “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله” (مت4: 3-4).
فكما أن الجسد يقتات بالخبز، فمن الجانب الآخر ستتعطل الروح بسبب إتمام رغبات
الجسد حتى لو كانت هذه الرغبات غير خاطئة. فليصلب الجسد إذاً لكى تنفذ المشيئة
الإلهية
. وأيضاً وهو على الصليب قيل له “إن كنت إبن الله فإنزل عن
الصليب”
(مت27: 40) فلماذا هذا التعب ولماذا هذه الآلام المريعة؟ ولكن
السيد المسيح لن يطع الجسد طالما يتعارض هذا مع مشيئة الآب السماوى. وبذلك يكون
مفهوم عبارة “لتكن لا إرادتى بل إرادتك” (لو22: 42) هو: لتكن لا
رغبات الجسد فى أن يرتاح أو أن يتحرر من الآلام الجسدية أو النفسية،
بل لتكن مشيئة الآب فى
إتمام الفداء.

تعرّض السيد المسيح لآلام نفسية مريرة بجوار
الآلام الجسدية. تمثَّلت هذه الآلام النفسية فى الآلام التى عاناها السيد المسيح
نتيجة لخيانة يهوذا (فهو إحساس مر أن يهوذا تلميذه يُقبّله ويُسلّمه لأعدائه بهذه
الصورة). وأيضاً فى تعييرات الناس الذين أتى لأجل خلاصهم ويقدِّم لهم حبه، فتكون
هذه هى مكافأته. إحساس مر لا يُعبَّر عنه. كما أن كونه موضوعاً فى وضع
الملعون والمصاب والمضروب من الله ويحمل كل خطايا البشرية لكى يقدّم ثمن عصيان
الإنسان وتمرده -كأس مملوءة بالمر.

كان من الطبيعى أن النفس والجسد يشعران أنهما
أمام اجتياز كأس مريرة جداً لابد أن يشربها إلى نهايتها. فيقول للآب “لتكن
لا إرادتى”
(لو22: 42). وليس المقصود بالإرادة هنا الإرادة المسئولة عن
إتخاذ القرار لأن القرار هو قرار الثالوث القدوس بإتمام الخلاص الذى أتى المسيح
لأجله. إنما المقصود بها هو الرغبة الطبيعية أو الإحتياج الطبيعى الناشئ عن حمل
السيد المسيح لطبيعة بشرية حقيقية من خصائصها الشعور بالألم وبالحزن وبالمعاناة.
وهكذا فإن السيد المسيح فى معاناته الرهيبة يريد أن يقول للآب: “لن يكون
قرارى مبنياً على ما فى هذه الخصائص البشرية من تعب وألم وحزن، لكنه مبنى على ما
فى رغبتى الكاملة فى إرضائك وفى تخليص الذين أحببتهم للمنتهى. فهو الذى قيل عنه
“أحبَّ خاصته الذين فى العالم أحبهم إلى المنتهى” (يو13: 1).

 

5- بالصليب تمت النبوات:

 كان
الصليب ضرورة لأن فيه تمت النبوات. إذ يقول داود النبى فى المزمور “ثقبوا
يدىّ ورجلىّ” (مز16: 22) “ويقتسمون ثيابى بينهم وعلى لباسى
يقترعون” (مز18: 22) “وفى عطشى يسقوننى خلاً” (مز69: 21)… وكل
هذه النبوات كيف تتم إلا إذا صلب؟… أو مثلاً عندما قال “كما رفع موسى الحية
فى البرية هكذا ينبغى أن يُرفع إبن الإنسان” (يو3: 14). فالمسيح حمل خطايانا
التى ترمز إلى الشر (الحية) فصعد على الصليب وسمّر الخطية على الصليب ثم نزل هو
وترك الخطية معلقة على الصليب. فلذلك نقول
}مزِّق صك خطايانا أيها المسيح إلهنا{ ويقول “إذ
محا الصك الذى علينا فى الفرائض الذى كان ضداً لنا وقد رفعه من الوسط مسمراً إياه
بالصليب” (كو2: 14). فقد سمَّر الخطية على الصليب والحية المُعلقة ترمز إلى
حمله خطايا العالم كله. فلابد أن تكون الذبيحة مرفوعة لأعلى لتتم النبوات.

 وكما شق
موسى النبى البحر الأحمر بضرب عصاه ثم ضربه ثانية بعلامة الصليب وأرجعه ثانيةً
فغرق فرعون الذى يرمز للشيطان هكذا كان الصليب هو وسيلة الغلبة على مملكة إبليس.

 

6- بالصليب ملك على خشبة:

 قيل عن
السيد المسيح المخلِّص “ملك الرب على خشبة” (مز95: 10) فلابد أن
تكون أداة موته التى يملك من خلالها على قلوب البشر هى خشبة. ولأنه قال أن مملكتى
ليست من هذا العالم لذلك كان لابد أن تعلّق هذه الخشبة مرفوعة إلى فوق. ويقول
“جعلوا فوق رأسه علَّته مكتوبة هذا هو يسوع ملك اليهود” (مت27: 37).
لذلك كان الصليب هو عرشه بإعتراف الوالى نفسه الذى كتب: “يسوع الناصرى ملك
اليهود”
(يو19: 19) وقد كتبت بثلاث لغات اللاتينية واليونانية والعبرانية،
بمعنى أن العالم كله قد إعترف رسمياً أن هذا هو ملك اليهود. ولكى تُعلّق علته فوق
رأسه وهو جالس على عرشه كان لابد أن يموت مصلوباً لأن هذه الأمور لن تتوفر إذا مات
مثلاً مذبوحاً أو محروقاً أو غريقاً…

ما هو سبب الصلب؟

 سبب
الصلب هو أنه هو ملك اليهود لأن عرشه هو الصليب فملكه هو سبب موته، وسبب موته
هو ملكه.
أى أن كونه ملكاً كان هو السبب فى أنهم حكموا عليه بالموت. ولكن كيف
مَلك؟ مَلك بالموت..!!

 

7- الصليب أعطى فرصة ثلاث ساعات لإتمام العمل:

لا توجد وسيلة موت تستغرق ثلاث ساعات. فإذا
وضعوا شخصاً فى النار سيموت خلال خمس دقائق. وكذلك الموت بالغرق، وكذلك الشنق
(فعند إزاحة الشئ الذى يقف عليه المحكوم عليه بالإعدام يصير معلقاً من رقبته فيحدث
إنفصال للنخاع الشوكى فى ثانية واحدة وبعد دقيقتين يُسلم الروح). ولكن السيد
المسيح كان يموت طوال الساعات الثلاث وقد حدثت أمور هامة وضخمة جداً فى هذه
الساعات الثلاث:

 

أولاً: تذكُّر آدم

 صُلِبَ
السيد المسيح فى اليوم السادس وفى الساعة السادسة ليذكّرنا بآدم الذى خلق
فى اليوم السادس.

ثانياً: خروف الفصح

تمت عملية الصلب ما بين الساعة السادسة والساعة
التاسعة وكان ميعاد ذبح خروف الفصح حسب ناموس موسى “بين العشائين”
(عد9: 3).

ثالثا: شمس البر

“ومن الساعة السادسة كانت ظلمة على كل
الأرض إلى الساعة التاسعة”
(مت45: 27) لأن الشمس قد أخفت شعاعها.
وعلى المستوى الروحى يقول “ولكم أيها المُتقون إسمى تُشرق شمس البر والشفاء
فى أجنحتها”(مل4: 2). وبالطبع لا توجد شمس لها أجنحة لكن السيد المسيح وهو
معلّق على الصليب كانت الأجنحة، هى الذراعين المبسوطتين، التى تقول “يا أبتاه
إغفر لهم” (لو34: 23) وهذا هو الشفاء الذى فى أجنحتها. الشمس أخفت شعاعها
لتُعلن أن شمس البر هو المعلق على الصليب لأنه لا يصح وجود الشمس فى وجود شمس البر
الحقيقى.

رابعاً: كلمات السيد المسيح على الصليب:

قول السيد المسيح للص “اليوم تكون معى فى
الفردوس” (لو23: 43) وما وراء هذه العبارة من إعلان عن فتح الفردوس. وقوله
“يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون” (لو23: 34) وما وراء
هذه العبارة من مشاعر الحب والغفران لمخلِّص العالم. وأيضاً “أنا عطشان”
(يو19: 28) لكى يتم المكتوب. و”قد أُكمل” (يو19: 30) وما تحمله هذه
العبارة من تأكيد على إتمام الفداء والنبوات المُختصة به. وقوله للعذراء أمه
“يا إمرأة هوذا إبنك” (يو19: 26) ويُسلِّمها ليوحنا لكى نعرف أن السيدة
العذراء أصبحت أماً روحية لجميع القديسين، والشفيعة المؤتمنة للكنيسة كلها فى شخص
يوحنا الحبيب، كما نفهم أن العذراء هى العروس والهيكل والسماء الثانية.

خامساً: لقطات من الأبدية

المشهد الأول:

فى خلال الساعات الثلاث على الصليب تكلّم السيد
المسيح كلمات كثيرة منها أنه قال للص اليمين “اليوم تكون معى فى
الفردوس” (لو23: 43). فى بداية الأمر كان اللص اليمين غاضباً جداً ومتفقاً مع
اللص الآخر فى تعيير السيد المسيح. ولكن بمرور الوقت بدأ يتحول من التذمر إلى
التوبة.

وكان لابد أن تكتمل هذه الصورة الجميلة التى
رسمها السيد المسيح على الجلجثة. اللص اليمين كان خاطئاً تائباً ذهب إلى الفردوس،
وأما اللص الشمال فكان خاطئاً لم يتب وذهب إلى الجحيم. كان المشهد كأنه لوحة فنية
متكاملة على الجلجثة: فنرى يسوع -ملك البر مخلّص العالم الذى اشترك معنا وحُسِبَ
بين البشر وهو الله الكلمة- يقف عن يمينه كل الذين طلبوا الغفران ونالوه، وعن
يساره كل الذين رفضوا التوبة أبدياً. فى يوم استعلان ملكوت الله سنرى نفس مشهد
الجلجثة عندما قال إنه “متى جاء إبن الإنسان فى مجده وجميع الملائكة القديسين
معه فحينئذ يجلس على كرسى مجده. ويجتمع أمامه جميع الشعوب فيميّز بعضهم من بعض كما
يميّز الراعى الخراف من الجداء. فيقيم الخراف عن يمينه والجداء عن اليسار”
(مت25: 31-33). هذا المشهد كان مجرد لقطة من الأبدية فنرى منظر المجيء الثانى
أثناء إتمام الفداء على الصليب.

 يقول
القداس الإلهى
}فيما نحن
نصنع ذكر آلامه المقدسة وقيامته من الأموات وصعوده إلى السماوات وظهوره الثانى
المخوف المملوء مجداً..
{ من هذه العبارة
نعرف أن الكنيسة لا تفصل بين أحداث الخلاص وأحداث المجيء الثانى والأبدية
لأن كل هذا هو عمل الله الفادى. مثلما قيل عن مجيء إيليا النبى قبل مجيء السيد
المسيح وهكذا نرى ما دونته الأسفار المقدسة وهى تشرح ارتباط نبوات المجيء الأول
بنبوات المجيء الثانى وهكذا كتب القديس متى “سأله تلاميذه قائلين فلماذا يقول
الكتبة إن إيليا ينبغى أن يأتى أولاً. فأجاب يسوع وقال لهم إن إيليا يأتى
أولاً ويرد كل شئ. ولكنى أقول لكم إن إيليا قد جاء ولم يعرفوه بل عملوا به
كل ما أرادوا” (مت17: 10-12). وفى سفر ملاخى يقول “هأنذا أرسل إليكم
إيليا النبى قبل مجيئ يوم الرب اليوم العظيم والمخوف”
(مل4: 5). لذلك
كلما قابل الكتبة والفريسيون التلاميذ كانوا يقولون لهم إن إيليا لم يأت فليس هذا
إذاً هو المسيح. فعندما رأى التلاميذ إيليا على جبل التجلى تذكروا كلام الكتبة
والفريسيين وسألوا السيد المسيح لماذا يقول الكتبة والفريسيين “ينبغى لإيليا
أن يأتى أولاً” فأجابهم يجب أن تفهموا الكتب. فالنبوة مزدوجة فحينما قال
“يتقدّم أمامه بروح إيليا وقوته ليرد قلوب الآباء إلى الأبناء والعصاة إلى
فكر الأبرار لكى يُهيئ للرب شعباً مستعداً” (لو1: 17) كان المقصود بها يوحنا
المعمدان، وقد قال السيد المسيح بفمه الطاهر “أن إيليا قد جاء
حينئذ فهم التلاميذ أنه قال لهم عن يوحنا المعمدان” (مت17: 12، 13)، إذن
النبوة عن مجيئه الأول ولكنها سوف تتحقق أيضاً حرفياً فى مجيئه الثانى. وفى سفر
ملاخى ربط أيضاً المجيء الأول بالمجيء الثانى إذ قال “فهوذا يأتى اليوم
المتقِّد كالتنور وكل المستكبرين وكل فاعلى الشر يكونون قشاً ويحرقهم اليوم الآتى
قال رب الجنود فلا يُبقى لهم أصلاً ولا فرعاً” (مل4: 1).

 

المشهد الثانى:

وهو لوحة أخرى جميلة رسمتها العناية الإلهية
أثناء أحداث الصلب: عندما خرج بيلاطس البنطى الحاكم الرومانى ليقف فى المنتصف
والسيد المسيح من جهة وباراباس من الجهة الأخرى. وراء هذا المشهد معنى رهيب، فهو
ليس وليد الصدفة. فبيلاطس يعتبر مجرد رمز للعدل لإنه يمثّل الحكم فى الإمبراطورية
الرومانية وهو يقف فى المنتصف، وملك البر – السيد المسيح آدم الثانى- يقف من ناحية،
وباراباس -المجرم والعاتى فى الشر الذى يمثل آدم العتيق- يقف من الناحية الأخرى.
فى قصة الخلاص لابد أن يموت أحدهما، إذ كان لابد من الإختيار بين الإثنين. طلب
الشعب أن يطلق باراباس ولكن ما وراء الأحداث فى قصة الخلاص هو أنه كان لابد أن
يُحكم على الرب بالموت لكى يفلت الأثيم الفاجر (الذى يمثل الإنسان الخاطىء) من
الهلاك الأبدى
.

جلسة محاكمة السيد المسيح كانت عجيبة جداً، فهى
أعجب محاكمة فى تاريخ البشرية كلها. هل حدث فى التاريخ كله أن القاضى يحكم فى
نفس الجلسة على الشخص بالبراءة والإعدام فى نفس الوقت؟ وبعدما حكم بالإعدام
“غسل يديه قدام الجمع قائلاً إنى برئ من دم هذا البار” (مت27: 24). لو
قُدّر لأحد أن تنكشف عن عينيه ورأى الذين فى الجحيم أو جهنم الأبدية، سيجد بيلاطس
مازال يغسل يديه، ويداه ملآنة دماء ولن تُغسل إلى الأبد لأن هذه الجريمة لا يغسلها
ماء بل كانت تغسلها التوبة أو التراجع عن الشر. وكأن القاضى نطق الحكم
]حكمت المحكمة ببراءة فلان وإعدامه صلباً[. فالسيد المسيح
برئ من جهة بره الشخصى، ويحسب خاطئاً لأن الآب وضع عليه إثم جميعنا حسبما هو مكتوب
“جَعَلَ الذى لم يعرف خطية، خطية لأجلنا، لنصير نحن بر الله فيه” (2كو5:
21).

 

المشهد الثالث:

 فى سفر
الأعمال عندما يتكلَّم عن حلول الروح القدس فى يوم الخمسين يقول على فم يوئيل
النبى: “أسكب روحى على كل بشر فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويحلم شيوخكم أحلاماً
ويرى شبابكم رؤى. وعلى العبيد أيضاً وعلى الإماء أسكب روحى فى تلك الأيام. وأُعطى
عجائب فى السماء والأرض دماً وناراً وأعمدة دُخان. تتحوَّل الشمس إلى ظلمة والقمر
إلى دم قبل أن يجئ يوم الرب العظيم المخوف” (يؤ2: 28-31). وهنا يربط بين أحداث
يوم الخمسين وأحداث نهاية العالم. فتحول الشمس إلى ظلمة والقمر إلى دم قبل أن يجيء
يوم الرب العظيم والشهير، المقصود بها هنا هو المجيء الثانى. لكن على الصليب
اظلمّت الشمس أيضاً… إذن ارتبط مشهد الجلجثة بمشهد نهاية العالم.
فلولا مراحم الله لإنتهى العالم يوم صلب المسيح لأنه كيف تتجاسر البشرية بأن تصلب
ابن الله الوحيد. لكننا نقول فى المزمور “هذا هو اليوم الذى صنعه الرب
فلنبتهج ونفرح فيه” (مز118: 24) وهو يوم الرب العظيم المخوف.

عندما تكلَّم السيد المسيح عن نهاية العالم قال
“تظلم الشمس والقمر لا يعطى ضوءه والنجوم تسقط من السماء” (مت24: 29)
فموضوع “تتحول الشمس إلى ظلمة والقمر إلى دم قبل أن يجيء يوم الرب العظيم
المخوف ويكون كل من يدعو بإسم الرب ينجو” (يؤ2: 31-32) إشارة إلى المجيء
الثانى أيضاً.

كل هذا الربط بين الأحداث والنبوات لا يمكن
حدوثه إلا بصلب السيد المسيح ثلاث ساعات، لكى تتم كل هذه الأحداث وهو مُعلَّق على
الصليب.

 

8- الصليب شجرة الحياة:

يقول القديس مار إفرام السريانى: (مبارك هو ذلك النجار الذى صنع بصليبه قنطرة لعبور المفديين). السيد المسيح إختار عدداً كبيراً من تلاميذه من
الصيادين، لكن مهنته هولم تكن صيد السمك، بل كانت له وظيفتان (وهذا تعبير مجازى): وظيفة
مارسها قبل الفداء (نجار)، والثانية ظهر بهيئته فيها وكأنه هو العامل فى هذا
المجال بعد القيامة (بستانى).

الوظيفة الأولى التى مارسها هى وظيفته كنجار.
فهو النجار الذى عمل من الشجرة صليباً لكى يفدى بها البشرية. كانت الشجرة هى سبب
سقوط البشرية فكان لابد أن يستخدم نفس الأداة التى سقطت بها البشرية ليُتمم بها
الفداء فيكون الصليب هو شجرة الحياة التى لا يموت الآكلين منها من المؤمنين. وكأنه
لا يوجد شئ فى الطبيعة يستطيع أن يقف أمام حكمة الله وتدبيره؛ فالحية أيضاً التى
كانت السبب فى سقوط البشرية علّقها موسى فى البرية لتكون وسيلة لبعد الناس عن الشر
والتخلّص من الخطية. ويقول القديس مار إفرام السريانى:
}كما أخفى الشيطان نفسه داخل الحية لكى يُسقط
الإنسان هكذا أخفى السيد المسيح لاهوته عن الشيطان بالناسوت
{ لأنه حجب مجده بالناسوتية “ركب على كاروب وطار… وجعل
الظلمة له حجاباً” (مز18: 10).

عندما عُلِّق السيد المسيح على الصليب كان مثل
الشجرة والثمرة معلقة فيها. فإذ نظر إبليس إلى الشجرة ووجد أن الثمرة شهية للأكل
وجيدة للنظر، إلتهم تلك الثمرة وإذ إبتلع الموت ما هو ضده إبتُلِعَ الموت من
الحياة كما كتب بولس الرسول “لكى يبيد بالموت ذاك الذى له سلطان الموت أى
إبليس”
(عب2: 14). أراد الرب يسوع أن يذكّر إبليس بما فعله فى
الإنسان وأراد أن يسقيه من نفس الكأس الذى ملأه وجرعه لغيره. لذلك يقول بولس
الرسول عن نعمة الخلاص “التى أجزلها لنا بكل حكمة وفطنة” (أف1: 8).
لم يؤذ أحداً إنما كان يأتى عليه كل الأذى، وهو يحرر البشر من سلطان الموت والخطية.
وهذه هى حكمة الله العجيبة، فالشيطان ليست له حجة لأنه هو المعتدِى فعندما قُبض
عليه متلبساً بجريمته كان لابد أن يدان.
لذلك كان موت السيد المسيح على الصليب
هو أحد مراحل دينونة الشر والخطية. “لأنه ما كان الناموس عاجزاً عنه فى ما
كان ضعيفاً بالجسد فالله إذ أرسل إبنه فى شبه جسد الخطية ولأجل الخطية دان الخطية
فى الجسد” (رو 8: 3). فأدين الشيطان على الصليب.

والخلاصة أنه كان لابد للسيد المسيح أن يعمل
نجاراً لكى نعرف أنه صانع الفداء على الصليب ولهذا كان لابد أن يموت على خشبة.

 

الصليب فتح باب الفردوس:

إختار السيد المسيح أن يكون قبره فى بستان،
وإختار أن يظهر لمريم المجدلية فى البستان. وحينما رأته مريم المجدلية التى تمثّل
البشرية “ظنت تلك أنه البستانى” (يو20: 15). وإذ ظهر لها فى هذه
الهيئة أراد بذلك أن يذكّرها بالجنة وحادثة سقوط البشرية ليفهمها أن الصليب فتح
الفردوس، لذلك قصد أن يكون لقاؤه معها فى بستان. فى البستان الأول ظهر إبليس لحواء
فى صورة الحية ولكن الذى قابل المجدلية هو السيد المسيح المخلِّص آدم الجديد لكى
يقول لها “إنى أصعد إلى أبى وأبيكم وإلهى وإلهكم” (يو20: 17) وليبشرها
أنه كما أن الله هو أباه بالطبيعة فسوف يصير لنا أباً بالتبنى. فالذى يكلِّمها ليس
هو إبليس الذى كلّم حواء فى الجنة لكنه كلمة الله الآب الذى يبشرها بالحياة
الجديدة التى “كانت عند الآب وأظهرت لنا” (1يو1: 2).

 

9 – الصليب محا اللعنة:

ورد فى سفر التثنية ” المعلّق ملعون من
الله
” (تث21: 23) لذلك أصّر اليهود على أن يموت السيد المسيح صلباً، لكى
يثبتوا عليه اللعنة بحسب الناموس ولا يجرؤ أحد أن يقول إنه بار أو قديس لأن
الناموس يقول “إن المعلّق ملعون من الله”. مع أن الله وضع هذه الآية فى
الناموس لكى يُعلّق الله الكلمة على الصليب ويرفع لعنة الخطية، لذلك أكمل أشعياء
النبى المعنى قائلاً “لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها ونحن حسبناه
مُصاباً مضروباً من الله ومذلولاً. وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل أثامنا
تأديب سلامنا عليه وبحبره شُفينا”
(أش53: 4-5). قد يعتقدون أنه ملعون
لكنه حمل لعنة خطايا آخرين وحمل خطايا كثيرين وشفع فى المذنبين حاملاً آثامهم.
لذلك لا ينبغى أن تؤخذ آية واحدة بدون النظر إلى ما يُكمل المعنى من آيات أخرى فى
الكتاب.

محا السيد المسيح لعنة الخطية بقيامته من بين
الأموات

كما قال معلمنا بولس الرسول “وتعين إبن الله بقوة من جهة روح القداسة
بالقيامة من الأموات” (رو1: 4). لذلك يقول أيضاً “الذى أسلِمَ من أجل
خطايانا وأقيم لأجل تبريرنا” (رو4: 25). وأكد أهمية الصليب كوسيلة لرفع
اللعنة عن المفديين فقال أن “المسيح إفتدانا من لعنة الناموس،
إذ صار لعنة لأجلنا.
لأنه مكتوب: “ملعون كل من علّق على خشبة”. لتصير بركة إبراهيم للأمم فى
المسيح يسوع، لننال بالإيمان موعد الروح” (غل3: 13،
14).

 

10- الصليب والعرش الإلهى:

الصليب كعلامة له أربعة أفرع أو أجنحة
ويرمز للعرش الإلهى الذى حوله الأربعة الأحياء غير المتجسدين. والعرش
السماوى ليس عرشاً مادياً لكنه عرش روحى وهو يتصل بالصليب بالرقم أربعة.
فالرقم أربعة واضح فى العرش السماوى وفى الصليب جداً. الصليب يرمز إلى إنتشار
الخلاص فى العالم كله. لأن به كان الخلاص من مشارق الأرض إلى مغاربها ومن الشمال
إلى الجنوب. كما أن الأربعة الأحياء التى حول العرش ترمز للخلاص. فصورة الإنسان
ترمز للتجسد وصورة العجل ترمز للذبيحة أو الصلب وصورة الأسد ترمز
للقيامة
والقوة لأن المسيح بقيامته من بين الأموات أعلن سلطانه الإلهى على
الموت. لأنه هو ملك الملوك ورب الأرباب. وصورة النسر ترمز للصعود لأن النسر
يحلِّق فى السماء. فالأحياء الأربعة ترمز لتجسد الكلمة وصلبه وقيامته وصعوده.

ولكى ينتشر الإنجيل فى العالم كله إنتشر من خلال
أربع بشاير
: متى ولوقا ومرقس ويوحنا. وهذا الترتيب هو ترتيب الأربعة الأحياء
الحاملين للعرش الإلهى. فهذا هو الترتيب اللاهوتى للبشاير الأربعة. لم يكن عدد
الأناجيل ثلاثة أو خمسة ولكنها كانت أربعة ولم يكن هذا بمحض الصدفة إنما كان نتيجة
لإرتباط الأناجيل بفكرة الصليب و بفكرة العرش أيضاً الذى حوله الأحياء الأربعة.

يتكلم إنجيل متى عن السيد المسيح ابن
داود أو ابن الإنسان وذُكِرَ لقب إبن الإنسان 33 مرة فى إنجيل متى، لذلك يرمز
إليه بالإنسان
. أما إنجيل لوقا فيتكلم عن السيد المسيح الخادم وعن عمله
فى تقديم نفسه كذبيحة لذلك اهتم جداً بأحداث الختان فى اليوم الثامن
والذهاب للهيكل لتقديم الذبيحة (فرخى الحمام) وذهابهم للهيكل أيضاً فى اليوم
الأربعين. ففى إنجيل لوقا نجد معانى كثيرة تشير إلى الذبيحة لذلك يرمز إليه
بالعجل
. وإنجيل مرقس من بدايته يتكلم عن الصوت الصارخ فى البرية ثم عن معجزاته
وقوته
لذلك يرمز إليه بالأسد. أما إنجيل يوحنا فيتكلم عن لاهوت
السيد
المسيح والإلهيات لذلك يرمز إليه بالنسر المحلق فى السماويات.
لذلك فإن الأربع بشاير تشير إلى عمل الله فى خلاص البشرية وخبر انتشاره فى العالم
كله.

فلكى تتحقق كل الرموز الخاصة بالفداء وكل
المعانى الروحية؛ كان لابد للسيد المسيح أن يموت مصلوباً وليس بأى ميتة
. حتى أن
السيد المسيح تكفن بالطيب قبل موته لكى يكون ميتاً وهو حى، وحياً وهو ميت. وهكذا
مات قائماً لكى نرى القيامة فى الصليب ونرى الصليب فى القيامة.

 

الأحياء الأربعة ومراحل الفداء:

رأى حزقيال النبى مركبة الشاروبيم ورأى كل من
الأحياء الأربعة له أربع وجوه. ونحن أيضاً ينبغى أن نرى فى كل حدث من أحداث الخلاص
باقى الأحداث. فعندما ننظر للتجسد نرى فيه الفداء: فقد ولد السيد المسيح فى مزود
فى وسط الغنم والبقر والعجول لكى نعرف أنه منذ ميلاده هو ذبيحة وقد جاء ليذبح. كما
لا يمكن فصل التجسد عن الصليب أو القيامة. التركيز على الصليب وحده ربما يقود إلى
الشك لذلك قال السيد المسيح لتلاميذه “كلكم تشكُّون فىّ فى هذه الليلة”
(مر14: 27). فالذى ينظر إلى الصليب بدون القيامة يتشكك. لذلك قال لهم إن إبن
الإنسان “يُسلّم إلى الأمم يجلدونه ويقتلونه وفى اليوم الثالث
يقوم
” (لو33: 18). كان لابد أن يؤكد لهم القيامة لكى كما قال لبطرس
“طلبت من أجلك لكى لا يفنى إيمانك” (لو22: 32). لذلك كل واحد من الأحياء
الأربعة له أربع وجوه فعندما ننظر بروح الرؤيا النبوية نرى مع حزقيال الثلاثة وجوه
الأخرى (الأسد والعجل والنسر) أى أننا عندما نتأمل فى ميلاده نتأمل ضمناً فى صلبه
وقيامته وصعوده للسماء.

كانت مريم المجدلية تريد القيامة بدون الصعود
فرفض السيد المسيح هذه الرغبة لتتذكر قوله للتلاميذ “خير لكم أن أنطلق. لأنه
إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزى” (يو16: 7).. وكأنه يقول كيف تولدوا ولادة
جديدة وتصيروا أولاداً لله وتغتسلوا من خطاياكم؟ كيف تصيروا أعضاءً فى جسدى
وتتناولوا من جسدى ودمى؟ وكيف تكونوا هياكل لله؟

هذا عمل الروح القدس فى الكنيسة، والروح القدس لن يأت
إلا بعد الصعود. كان لابد أن يصعد السيد المسيح إلى السماء بعد أن تمم الفداء لأن
بركات الفداء لن تصل إليهم إلا بالصعود للسماء. كان لابد أن يذهب إلى المقادس
العلوية لكى يخدم كرئيس كهنة،
وهناك أمام الله الآب يشفع فينا من أجل غفران خطايانا. ومنذ
القديم كان صعود الذبيحة يعنى أنها قُبلت، لذلك كان ينبغى للصعيدة أن تصعد. إذا
رفضنا صعوده نكون مثل من يقدّم الصعيدة للآب السماوى وعندما يمد الآب يده ليقبلها
يريد أن يستردها ثانية..‍‍‍!!

 مريم
المجدلية كانت تفكر بهذه الطريقة: فرحتها بالقيامة جعلتها تريد أن تمسك بالسيد
المسيح. فقال لها “لا تلمسينى لأنى لم أصعد بعد إلى أبى. ولكن إذهبى إلى
إخوتى وقولى لهم إنى أصعد إلى أبى وأبيكم وإلهى وإلهكم” (يو20: 17) وهذا شرط
إستمرار العلاقات بيننا. بالطبع كان قوله لها “لا تلمسينى” بمثابة صفعة
على وجهها. ففى أول لقاء عندما ظهر لها فى البستان بعد قيامته من بين الأموات مسكت
قدميه وسجدت له لكن قوله لها “لا تلمسينى” هنا معناه أنه لا يريدها أن
تمسك به. وعند الرجوع إلى المعنى اليونانى للفظة “لا تلمسينى” نجد أنها
تعنى بداية اللمس للإمساك بالشىء وليس مجرد اللمس فقط.

 

رؤيا حزقيال ورؤيا يوحنا:

رأى حزقيال النبى الأحياء الأربعة بأربعة وجوه
وأما يوحنا فقد رآها بوجه واحد. وليس معنى هذا أن رؤيا حزقيال النبى كانت أوضح من
رؤيا يوحنا لأن يوحنا رأى أكثر مما رآه حزقيال مع أن المنظر الذى رآه حزقيال كان
منظراً رهيباً جداً: البكرات والنار والمركبة النارية الشاروبيمية. لكن عندما رأى
يوحنا الرؤيا كان قد تم التجسد والصلب والقيامة والصعود فدخلت هذه الأمور فى مجال
الزمن وأصبح التجسد فى وقت والصلب فى وقت ثانٍ والقيامة فى وقت ثالث والصعود فى
وقت رابع وأصبحت أحداثاً متتالية كل حدث منها له معالمه البارزة التى تحدده. فلم
تحدث القيامة فى يوم الصلب ولم يحدث الصلب فى يوم الميلاد ولم يحدث الصعود فى يوم
القيامة. لذلك كان لابد أن يكون بين الصعود والقيامة أربعين يوماً لأنه إذا حدث
الصعود فى يوم القيامة لن نفهم ما معنى القيامة ومعنى الصعود. وكان يمكن أن يحدث
مزج بين المعنيين. القيامة حدث مستقل بذاته دون أن ينفصل عن الصعود والصلب
والميلاد، أى أنه لم يمتزج ويذوب فى أحداث أخرى، لكن بدون إنفصال، أى أن له ملامحه
المحددة القائمة بذاتها. ولهذا رآى يوحنا وجه واحد لكل من الأحياء الأربعة. أما
حزقيال النبى فقد رأى أربعة وجوه للواحد منهم: لأن الأحداث لم تكن قد تمت بعد
فيراها حزقيال بروح النبوة كأحداث متلازمة يُكمل بها الأربعة معاً عملية الفداء.

رأى حزقيال النبى الأحياء الأربعة من بعيد، لذلك
رأى أربعة وجوه، لكل منها، لكن يوحنا عندما نظر عن قرب، رأى وجهاً واحداً فقط.
فعندما وصف يوحنا العرش الإلهى أبرز تمايز أحداث التجسد والصلب والقيامة
والصعود وهى أحداث عايشها يوحنا الإنجيلى فى مراحلها المتمايزة، لكن حزقيال الذى
رأى من بعيد كانت الأحداث تتراكم مع بعضها فى نظره وتلاشت الفوارق الزمنية بينها
لأنه
يراها بروح النبوة وليس كأحداث حدثت فعلاً. ولتقريب المعنى نورد المثال التالى: إذا
نظرنا إلى أى شىء من بعيد نرى له وجوهاً كثيرة، لكن إذا وضعناه أمام أعيننا لن نرى
سوى الوجه المقابل لنا فقط
.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى