علم الانسان

الصداقة فى الكتاب المقدس والآباء



الصداقة فى الكتاب المقدس والآباء

الصداقة
فى الكتاب المقدس والآباء

وهيب
قزمان

 

مقدمة

مقالات ذات صلة

يمكننا
أن نستخلص صورة واضحة عن الصداقة فى القرن الرابع الميلادى من خلال الرسائل
الشخصية المتبادلة بين بعض الآباء الكتاب الأوائل فى ذلك الزمان، وكذلك كتاباتهم
اللاهوتية والنسكية، وبدراستها نستطيع أن نعرف مدى تفاعل المفاهيم المسيحية عن
الصداقة[1]
[1] مع الوسط الثقافى اليونانى الرومانى، وخاصة تلك النظريات
الكلاسيكية حول الصداقة. وتعتبر الصداقة من أهم المجالات الأخلاقية، لكنها للأسف
لم تعد تشغل حيزاً هاماً فى حياة كثير منا فى هذه الأيام.

وتتناول
هذه الدراسة أولاً، الجانب النظرى فى موضوع الصداقة أكثر من خوضها فى دقائق سيّر
الأشخاص أو التغلغل فى نسيج التاريخ الاجتماعى أو السياسى، أو حتى اللاهوتى للقرن
الرابع، وذلك من خلال فحص موجز لتراث مسيحى، تفاعل مع كلاسيكيات ذلك الزمان إن
مؤثراً فيها أو متأثراً بها. كما ندرس جانباً عملياً من حياة بعض الكتاب المسيحيين
فى القرن الرابع، وكنموذج فريد لصديقين من أعظم الآباء؛ هما القديسان باسيليوس
الكبير وغريغوريوس النيزينزى، وأيضاً من خلال استكشاف علاقاتهما بغيرهما من
المسيحيين وغير المسيحيين، حتى تتسق النظرية مع التطبيق العملى فى حياتهم،
وبالتالى ترسم لنا الخطوط العريضة للصداقة المسيحية الحقيقية، لندرك أن الآباء
حينما كتبوا ما اختبروه، إنما أرادوا أن نختبر نحن ما كتبوه لنا.

وقد
اخترنا نماذج دراستنا من القرن الرابع وأوائل القرن الخامس بشكل خاص، لأنها الفترة
الذهبية التى شهدت تطور ونمو الكنيسة عقب اضطهاد مروع كاد أن يهدد استقرارها
وعقيدتها وعلومها اللاهوتية. وبعد انعقاد المجامع المسكونية وبلورة قوانينها بشكل
يقينى ومستقر حفظ لأجيالنا وديعة الإيمان، خاصة أنها الفترة التى شهدت اهتماماً
ملحوظاً بالصداقة من جانب المسيحيين بشكل أكثر جدية وإيجابية من ذى قبل، تلك
الصداقة التى لعبت دوراً هاماً ومؤثراً فى حياة وفكر المسيحيين[2]
[2]، وظهرت الكتابات العديدة حول الصداقة، وترددت على الألسنة عبارات
شائعة مثل “الأصدقاء يشتركون معاً فى كل شىء”، وهى من أقوال القديس
اكليمندس الأسكندرى[3]
[3] فى القرن الثانى، الذى يمكننا أن نستخلص من كتابه “من يستطيع
أن يخلص” أن الصداقة تحتاج فى ازدهارها إلى وقت طويل.

أما
عن التراث الكلاسيكى الإغريقى للصداقة، فقد اختار الآباء منه قيم الاتحاد الروحى
بين الأصدقاء، وتوافق الاهتمامات المشتركة بينهم، والذى كان من مثاليات اليونانيين
قديماً، التى تتوافق مع المبادئ المسيحية حول الصداقة والمحبة الأخوية، الأمر الذى
تم تعميقه لدى المسيحيين بشكل أوسع، إذ أن العامل الحيوى للصداقة عندهم هو
العلاقة بين الله والإنسان من خلال الشركة مع المسيح
، أو ما يمكن أن نطلق عليه
ببساطة شركة الإيمان الواحد. فالذين يعيشون فى الشرق والغرب يربطهم جميعًا هذا
الإيمان الواحد المشترك. وفى ظل هذا الإيمان لعبت الرسائل دوراً بارزاً فى
الاتصالات الشخصية والتأكيد على روابط المحبة والمودة بين المسيحيين، فكانت
الرسائل بجانب الصلوات المشتركة تحافظ على وحدة الكنيسة وإيمانها فى الأوقات
العصيبة بوجه خاص[4]
[4]. ومن أوائل الآباء الذين عبروا عن مدى أهمية المراسلات بين
الأصدقاء كان بولينوس أسقف نولا فى رسالته إلى باماخيوس:

[كانت
الكتابة هى السبيل الوحيد الذى أسافر من خلاله مرتحلاً إلى شخصكم المحب والمقدس،
فأنا لا أقدر أن أضع نفس القيود على ذهنى وعقلى كما على جسدى؛ لأن الجسد دائماً
ضعيف يأبى أن يتحرك فى الشتاء فى رحلات طويلة، بينما الروح أكثر قوة واقتدار على
الطيران إليك فى شوق وحمية متأججة، حتى إنه رغم إنى لم أعانقك شخصياً، كنت قادراً
على ذلك بعقلى وفكرى ]
[5][5].

وفى
الواقع كانت معظم الرسائل المتبادلة تتناول عادة المجادلات والمناقشات اللاهوتية،
أو تبحث فى تفاصيل تنظيم الكنيسة ككيان روحى واجتماعى، ولم تكن تتناول العنصر
الشخصى إلا نادراً. أما الرسائل الشخصية التى تبادلها الناس فيما بينهم فقد احتوت
العنصر الشخصى فى الصداقة والمحبة والمودة القائمة على الإيمان الواحد المشترك فى
المسيح، ورباط المحبة الإلهية الذى ظل يميز هذه الصداقة المسيحية. إذ أن الأفكار
والأحاديث عن الصداقة كانت تركز بشكل كبير على العلاقة الحميمة مع شخص المسيح.

وإن
كان كثير من الآباء لم يتمكنوا من اللقاء الشخصى، لكنهم استطاعوا تأسيس علاقة
روحية وفكرية عميقة بينهم من خلال المراسلة على مدى سنوات طويلة، كما فى حالة
القديسين باسيليوس وغريغوريوس النيزينزى، موضوع دراستنا، وأيضاً فى حالة القديسين
أغسطينوس وإيرونيموس. ورغم الصعوبات التى اعترضت المراسلة بين الأصدقاء، خاصة فى
فصل الشتاء، وعدم توافر الرسول المؤتمن على توصيل الرسالة فى حينها [6]
[6]، إلا أن رجال القرون الأولى اعتبروا الرسائل من أهم الوسائل التى
تمدهم بالمعلومات حول الأحداث الهامة فى شتى أنحاء البلاد، ومن أكثر العوامل
محافظة على العلاقات الروحية الحميمة بينهم. وقد قال القديس إيرونيموس إن كتابة
الرسائل تجعل الأصدقاء حاضرين معاً (فى المحبة ورباط الروح)،
بينما يعبر
القديس امبروسيوس عن هذا الأمر بالكتابة إلى صديقه بانينوس فى رسالته [7]
[7] التى يستهلها بملحوظة شديدة الخصوصية:

[
لما كانت كتابة الرسائل تُدخل السرور على قلبك، إذ تجعل البعيدين يشتركون معاً فى
الحديث وكأنهم قريبون، فسوف أداوم على مراسلتك والكتابة إليك، خاصة وأنا وحدى، حيث
لا يوجد من يُقاطع حديثنا، أو يشغلنا
لهذا أريدك أن تكون قريباً منى لنتأمل فى الكتب المقدسة، ونتجاذب
أطراف الحديث طويلاً ].

ونلاحظ
من هذه العبارة الأخيرة أن الكتاب المقدس كان يشغل المركز الرئيسى فى علاقات
الصداقة بين الآباء الأصدقاء، فكانت غالبية مراسلاتهم عبارة عن تأملات حول الكتب
المقدسة، واستلهاماً لقوة الروح الذى يسوقهم ويفسر لهم ما خفى من أقوال، ويقود
حياتهم فى شركته ويربطهم بروح المحبة والفرح والسلام.

 

أولاً:
الصداقة فى الكتاب المقدس

كان
لابد أن يستند أى مفهوم للصداقة فى الفكر المسيحى فى القرون الأولى إلى الكتاب
المقدس باعتباره المصدر الأول والأساسى للتعليم، لذا يجدر بنا أن ندرس كيف صور
العهدان القديم والجديد الصداقة كعلاقة إنسانية اجتماعية لا يغيب عنها البعد
الروحى الذى يتضمن حضور الله الشخصى بين الأصدقاء، بالشكل الذى استوعبه ومارسه
مسيحيو ذلك الزمان. وفى العهد القديم كانت النسخة السبعينية تستخدم كلمة
“صديق” (
F…loV) للتعبير عن مجموعة الكلمات العبرية التى تتناول معنى
“القريب” و”الجار” . لأن اللغة العبرية الكتابية لا تحوى
مرادفاً لكلمة “صديق” بشكل دقيق[8]
[8]. كما أن العهد القديم لا يتناول المفهوم الاجتماعى واللاهوتى عن
الصداقة بوضوح، بالرغم من قصة الصداقة المشهورة بين داود ويوناثان، والتى أصبحت من
الأمثلة البارزة (1صم 18).

وباستثناء
هذه القصة لا نقرأ كثيراً عن الصداقة فى العهد القديم. إلاّ فى كتب الحكمة مثل
الأمثال وحكمة سليمان وحكمة يشوع بن سيراخ والجامعة. ففى حكمة يشوع بن سيراخ 6: 5-17
نجد عدداً من العبارات الجوهرية حول الصداقة، تشبه كثيراً تلك الموجودة فى الأدب
الإغريقى الكلاسيكى، لكنها ترد فى العهد القديم مرتبطة بمخافة الله، موضحة البعد
الإلهى للصداقة كما فى الآيات 14-16: “الصديق الأمين ستر حصين، ومن يجده
فقد وجد كنزاً، والصديق الأمين ليس له شبيه… الصديق الأمين دواء الحياة، والذين
يتَّقون الرب يجدونه
.” وهكذا فإن أفضل أنواع الصداقة بين الناس هو ما
بُنى على علاقتهم الحميمة بالله وحياة الشركة والمحبة الحقيقية بينهم[9]
[9].

ويلاحظ
أن التأكيد على اصطلاح الصداقة فى العهد الجديد أقل منه فى العهد القديم، إذ نجد
أن كلمة “صداقة”
Fil…aمذكورة مرة واحدة فقط فى رسالة يعقوب 4: 4. كما
نلاحظ أن فعل “يحب”
¢gapî أكثر شيوعاً من الفعل “يصادق” File‹n
الذى لا يستخدم عن محبة الإنسان لله. ونجد مجموعة الكلمات صديق
F…loV ومشتقاتها Fil…a , File‹n متكررة فى أناجيل لوقا ويوحنا، وخاصة فى إنجيل يوحنا، حيث المحبة
ذات أهمية كبيرة، والحديث عنها واضح لا غموض فيه. ويمكن أن نستنبط بعض الأفكار العامة
حول الصداقة فى الحياة اليومية لمسيحيى ذلك العصر من خلال الأمثال الواردة فى
لوقا11: 5-8؛ 15: 6و9 و29، ولكنها أمثلة غير كافية لإيضاح الصداقة كميزة إيجابية
للمسيحى. لهذا كانت بعض نصوص إنجيل يوحنا نصوصاً حاسمة وأساسية فى هذا المجال.
ولكن يلاحظ أن الرب يسوع رفض الصداقة القائمة على تبادل المنفعة والانتهازية، كما
جاء فى لو 14: 12، مت 5: 46. لأنه يجب على المؤمنين أن يتمثلوا بإلههم الذى يحب
محبة مجانية بلا تمييز وبلا مقابل. وها هو الرب يسوع ينفذ إلى دائرة الصداقة
المغلقة القاصرة على روابط الأسرة والأصدقاء، ويوسع حدودها كثيرًا.

وتسمية
المسيح لتلاميذه بالاخوة والأصدقاء فإنما، ترجع إلى أن لهم نصيباً فى الحياة مع
المسيح، والتمتع بالملكوت السماوى. مثلما قال الرب يسوع أن لعازر حبيبنا (صديقنا)
قد نام، وقد بكى عليه عند موته لمحبته (يو 11: 35-36). وكما يذكر الإنجيل أن يوحنا
الحبيب كان أعز صديق وألزق تلميذ للرب[10]
[10].

ويعتبر
الإصحاح 15 من إنجيل يوحنا من أهم نصوص الصداقة فى العهد الجديد، إذ يتحدث فيه
الرب يسوع مع التلاميذ باعتبارهم أصدقاءه. ويتناول المحبة والمودة باعتبارهما جوهر
حياة شعب الله؛ وهى المحبة التى تكشف عن العلاقة بين الله والناس، وبين الناس
وبعضهم البعض، من خلال الصداقة المسيحية الحقيقية، التى تمتاز بالتأكيد على دوام
محبتنا للمسيح شخصياً مع محبتنا للقريب. هذه الصداقة التى يسعى المسيحى ويجاهد من
أجل تحقيقها بالاقتداء بالمسيح، الذى بذل نفسه لأجل أحبائه وأصدقائه. ومن دراسة
يوحنا 15: 12و14 نعرف مدى ارتباط محبتنا الكاملة للمسيح بمحبة الآخرين من الأقارب
والأصدقاء، دون أن ننسى وصية المسيح لنا بمحبة الأعداء. هكذا نخرج بصداقتنا من
حدود دائرتها الضيقة، والمنغلقة على الأصدقاء والأقارب فحسب، إلى رحابة حب ومصادقة
كل الناس
؛ لأن كلمات الرب يسوع تؤكد أن المحبة أساسية بين أعضاء الجماعة
الصغيرة، لكنها تصبح أكثر ضرورة للحياة المسيحية الكاملة، التى تهدف إلى أن يصير
الله الكل فى الكل فى حياتنا. كما توضح الآيات 1يو12،11،7: 4 أن المحبة المتبادلة
بين الأصدقاء تعتبر جزءً من الوصية الخاصة بمحبة القريب، التى أكد المسيح عليها
كثيراً.

يعتبر
ما ورد فى سفر الأعمال (2: 44-45، 4: 32-35) من أهم النصوص الكتابية فى موضوع
الصداقة فى حياة الكنيسة الأولى، حيث يجرى الحديث عن حياة الشركة بين المؤمنين،
الذين باعوا كل ما لهم وألقوه عند أقدام الرسل، وكانوا جميعاً ذوى قلب واحد ونفس
واحدة
وقد تبدو تلك
النصوص غير وطيدة الصلة بالصداقة، لكن من يدرسها فى ضوء الحياة المسيحية فى
المجتمعات الأولى فى أورشليم، يتأكد أن ثمة صداقة ومودة كانت قائمة بين أعضاء هذه
المجتمعات المسيحية المبكرة
أَوَ ليس الأصدقاء هم الذين يصير عندهم كل شىء مشتركاً؟ (أع 4: 32).
وقد استعان الآباء الأوائل بالنصوص السابقة من سفر الأعمال فى التأكيد على أن
وحدانية القلب ”
Like
mindedness
” تشكل جزءاً
أساسياً فى الصداقة الروحية. وهكذا تصلى الكنيسة فى صلاة باكر: “مسرعين إلى
حفظ وحدانية الروح برباط الصلح الكامل، لكى تكونوا جسداً واحداً وروحاً
واحداً” (أف 4: 1-5).

ومن
عبارات الصداقة المأخوذة من العهد القديم ما ورد فى مزمور 55: 7س: “من يعطينى
جِنَاحَى حمامة فأطير وأكون فى سلام”. يقصد أن أكون مع الصديق والصاحب، وهى
العبارة التى انتشرت فى الرسائل المتبادلة بين المسيحيين، معبرة عن اشتياق الصديق
أن يلحق بصديقه [11]
[11]. وقد فسر أوغسطينوس هذه الكلمات بأنها تعبر عن محبتنا لله ومحبتنا
لبعضنا البعض، التى يرمز إليها المرنم بجناحى الحمامة التى ترفعنا إلى الله[12]
[12]. وهناك نصوص أخرى عن الصداقة فى أدب الحكمة مثل سفر الأمثال 27: 6:
“أمينة هى جروح المحب، وغاشة هى قبلات العدو”، والجامعة 4: 9-10 ”
اثنان خير من واحد

لأنه إن وقع أحدهما يقيمه رفيقه”. والذى يرد كثيراً فى مراسلات الأصدقاء من
المسيحيين فى القرون الأولى. ويبدو أن لهذا النص تطبيقاً فى نصيحة بولس الرسول فى
غلاطية 6: 2 حيث يقول: ” احملوا بعضكم أثقال بعض، وهكذا تمموا ناموس
المسيح”، وهى العبارة الرئيسية التى اتُخذت كشعار للصداقة الأمينة، تلك
الصداقة التى هى مصدر التعزية والفرح بحق [13]
[13]. وكلا النصين السابقين من سفرى الجامعة وغلاطية، يؤكدان مفهوم
الصداقة كعلاقة حميمة متبادلة بين اثنين، كما يُستخدمان فى توبيخ ولوم الإخوة
الذين لا يلتزمون بتوطيد أواصر المحبة والصداقة بينهم.

أما
الإصحاح السادس من كتاب يشوع بن سيراخ والذى يتناول وصف الصداقة ومدحها بأنها أثمن
وأغلى من الذهب والأحجار الكريمة. بل ويسميها ” دواء الحياة ” فهو من النصوص
التى يشير إليها القديس غريغوريوس النيزينزى على الدوام، مع نصوص أخرى مثل مز 8: 11،
19: 10 ونشيد الأنشاد 4: 12 والتى يطبقها على الصداقة فى بداية عظته الحادية عشرة
المرسلة إلى القديس غريغوريوس النيسى، شقيق القديس باسيليوس أفضل أصدقائه.

جسد
واحد وروح واحد
: على الرغم من أن المسيح قد أعطانا وصيته المُلْزِمة بمحبة
القريب دون تمييز، إلاّ أنه من المُسلّم به أن تكون المحبة بين المسيحيين أقوى من
التى بينهم وبين من هم خارج الإيمان. أليس المسيحيون يكوِّنون جسداً واحداً وروحاً
واحداً نتيجة صداقتهم فى المسيح؟ ومثل هذه العلاقة الروحية الحميمة بين المؤمنين
وبعضهم تُشْبه ما بين الأصدقاء من ود حميم كعبارات الإنجيل: “كان الجميع بنفس
واحدة. وكان كل شىء بينهم مشتركاً “. التى تذكرنا بالعبارات الشهيرة ”
روح واحد فى جسدين”. كإشارة إلى الصداقة الحميمة[14]
[14].

ويتخذ
ذهبى الفم الرسالة إلى كولوسى 1: 8 والتى تعبر عن ضرورة العلاقة الروحية الحميمة
للحياة المسيحية الحقيقية نقطة انطلاقة نحو مناقشة مستفيضة لأنواع الصداقة
وأسبابها، سواء كانت هذه الصداقة طبيعية أم اجتماعية، صالحة أم شريرة، معتبراً أن
جميع هذه الصداقات أدنى من الصداقة التى تلهمها المحبة الروحية. هذه الصداقة
الروحية التى لا تنمو نتيجة المصالح المتبادلة بين الأصدقاء، كما أنها لا تنهار
بسبب أى شائبة تعيبها، بل إنها لا تتعلق بشىء أرضى على الإطلاق، إذ هى سماوية
الأصل
[15]
[15]. ويتفق معه فى الرأى الأب يوسف الذى يؤكد أنه يوجد نوع واحد من الصداقة
لا ينحل، والذى يتم بواسطة الله، ويقوم فيه الحب بين الأصدقاء على أساس التشابه فى
الفضيلة بين من لهم هدف واحد وفكر واحد، وليس على أساس المنفعة أو التشابه فى
العمل [16]
[16]. كما يعتبر ذهبى الفم العلاقات التى تنشأ بين من يأكلون معًا
(لو14: 12-14) من أدنى أنواع الصداقة، ولا ترقى إلى الصداقة الروحية التى تنال
مكافأتها فى السماء، وتؤول إلى الصداقة مع الله.

أما
فكرة أن الصداقة الروحية هى هبة من الله بالروح القدس فيها، فيؤكدها بولس الرسول
قائلاً: “إن محبة الله قد انسكبت فى قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا”
(رو5: 5) هذه الفكرة تميز بوضوح بين المفهوم المسيحى للصداقة والمفهوم الكلاسيكى
لها، والذى كان يقوم على الاختيار العقلانى والمشاعر الإنسانية الطبيعية والفضيلة.
ويفسر أوغسطينوس هذه الآية، مؤكداً على عمل النعمة الإلهية فى المحبة والصداقة
وعجز الإنسان عن فعل أى عمل صالح بدون معونة الله.

 

ثانياً:
الصداقة فى حياة وفكر

القديسَيّن
باسيليوس الكبير وغريغوريوس النيزينزى

كيف
اختبر مسيحيو القرن الرابع الصداقة؟ وكيف كتب عنها الآباء بعد أن ذاقوا حلاوتها فى
اختباراتهم الشخصية كما وردت فى الرسائل المتبادلة بينهم؟ وكيف كانت ردود أفعالهم
حيال النظريات الكلاسيكية عن الصداقة؟.

نركز
دراستنا على اثنين من الأباء الأولين ورجال الكنيسة ورعاتها من الشرق، الذين كتبوا
باليونانية خلال القرن الرابع؛ القديس باسيليوس الكبير الذى أصبح رئيس أساقفة
قيصرية، والقديس غريغوريوس النيزينزى الذى صار بطريركًا للقسطنطينية، واللذان
ارتبطا معاً بصداقة قوية مخلصة وثابتة، على الرغم من عدم اتفاقهما فى بعض الآراء
والمفاهيم حول الطريقة التى يُكرّس المسيحى بها نفسه ليخدم المسيح أفضل خدمة،
لكنهما اعتبرا أن الصداقة بينهما لها الأولوية القصوى
مصدرنا الرئيسى فى معرفة هذه الصداقة هو الرسائل المتبادلة بين
الرجلين، وقصيدة القديس غريغوريوس التى يحكى فيها سيرته الذاتية
De vita sua وعظته الثالثة والأربعين، ورسالته التى كتبها لتأبين صديقه القديس
باسيليوس بعد رحيله عام 379 [17]
[17].

ولتيسير
الدراسة؛ رأينا أن نقسم هذا المبحث إلى جزئين، يتناول الأول منهما الحديث عن
“الصديقين”، أما الثانى فيتعرض لعلاقة “الصداقة” بينهما ومدى
تفاعل فكرهما المسيحى مع الأفكار الكلاسيكية السائدة آنذاك.

 

I الصديقان

 يبدو
أن تعارف القديس باسيليوس على القديس غريغوريوس يرجع إلى أيام دراستهما الأولى
بالمدرسة فى قيصرية، على الرغم من أن صداقتهما لم تبدأ إلا فى أثينا خلال دراستهما
الجامعية. ويعطينا القديس غريغوريوس فى تأبينه للقديس باسيليوس تفصيلاً لهذه
الصداقة التى نشأت بين شابين أحدهما ابن أسقف، والثانى ابن أستاذ فى الخطابة. وقد
توثقت صداقتهما فور وصول القديس باسيليوس إلى أثينا، إذ رتبت العناية الإلهية أن
يؤازره القديس غريغوريوس بخبرته بالحياة الطلابية للاستقرار وسط زملائه من الطلاب،
بالإضافة إلى شهرته التى سبقته إلى هناك[18]
[18]. وتوطدت بينهما أواصر الصداقة ووشائج الود بعد أن بدأ كل منهما فى
طلب النصح والإرشاد من الآخر، فى علاقة حميمة ومحبة خالصتين، حيث تأكد لهما أن
كليهما يسعى إلى بلوغ نفس المثالية فى الحياة والصداقة، الأمر الذى جعلهما ينفصلان
عن باقى الطلاب الوافدين إلى أثينا من حوض البحر المتوسط. إذ تمثلت رغبتهما
الأكيدة فى حياة الروح والنسك والتأمل. وفى هذه المرحلة كان مسلكهما مسيحياً
وهدفهما مسيحياً حتى وهما فى عمق انشغالهما بدراسة الفلسفة الكلاسيكية والبلاغة،
بقصد أن يصيرا من أخِصَّاء المسيح، وإذ اشتركا معاً فى نفس هذا المبدأ والهدف،
اشتركا أيضاً فى كل شىء عداه، يشجع كل منهما الآخر ويعضده، وكأن لهما معاً نفساً
واحدةً!! ويكتب القديس غريغوريوس عن صداقته مع القديس باسيليوس قائلا:

[كان
رفيقى فى الدراسة وفى المسكن، وفى المناقشات كنا معاً نشكل فريقاً واحداً، وقد
اشتُهر هذا الفريق على مستوى اليونان كلها، اشتركنا فى كل شىء، وكانت لنا نفس
واحدة جمعت شخصينا المتميزين معاً. وكان اشتياقنا إلى الله وإلى السماء، هو الأمر
الذى جمعنا معاً فوق كل شىء. هكذا بلغنا ذروة الثقة المتبادلة بيننا، وكاشف أحدنا
الآخر بما يحمله كل واحد منا فى أعماق قلوبه حتى توحدنا بالأكثر فى كل اشتياقاتنا
وجمعتنا صداقة وثيقة، إذ كانت لنا نفس الأفكار][19]
[19].

كانت
هذه الصداقة متميزة فى نظر القديس غريغوريوس. وكعلاقة روحية مؤسسة على الله، كانت
أكثر استمراراً وعمقًا من الصداقات المادية أو الجسدية، التى تحركها دوافع المنفعة
واللذة، والتى يشَّبهها القديس غريغوريوس بالزهور البرية لأنها سريعة الزوال[20]
[20].

تمنى
الصديقان أن تستمر علاقتهما الحميمة التى كان كل شىء فيها مشتركاً، حتى بعد ترك
أثينا. ويَعد القديس غريغوريوس صديقه أنه سيلحق به سريعاً فى خلوته ونسكه، ليكونا
أكثر قرباً من الله بتشجيع كل منهما للآخر. إذ كان القديس باسيليوس قد رحل مبكراً
من أثينا إلى بنطس وقيصرية عام 355م، وأثر هذا الرحيل سلبياً فى صديق عمره القديس
غريغوريوس والذى شعر أنه انشطر نصفين[21]
[21]، خاصة بعد أن توطدت صداقتهما واختبرا معاً حياة الشركة فى الصلاة
والعبادة ودراسة الكتاب، فكتب القديس غريغوريوس لصديقه رسائله 4-6 يصف تلك الفترة
الجميلة فى حياتهما. وكانت رسائله لا تخلو من مداعبة القديس باسيليوس لأنه اختار
الصحراء موطناً له، ثم لا يلبث أن يخبره عن أسفه العميق لرحيله عنه وتركه وحده،
ويختم رسالته السادسة بقوله ” إنه لا يستطيع أن يستغنى عنه فى حياته
وجهاده،
بل إنه يعتمد عليه أكثر من اعتماد المرء على الهواء الذى يتنفسه
لكى يعيش”
. ويمكن القول إنه يعيش فقط طالما أنه مرتبط بالقديس باسيليوس
سواء كانا يعيشان معاً فعلاً، أم كانا منفصلين عن بعضهما، فإنهما يشتركان معاً فى
أفكارهما. وهو يرجو القديس باسيليوس أن يؤازره، ولو أنهما لا يستطيعان أن يكونا
معاً، قائلاً:

[ساعدنى
واجتهد معى فى كل عمل صالح، وإن كنا قد حققنا معاً أى منافع فى الماضى، فأعنى الآن
لأحتفظ بها بصلواتك، لئلا تنحل تدريجياً كما يتلاشى الظل عند غروب الشمس].

ويلاحظ
أنه رغم تركه لصديقه القديس باسيليوس، لكنه من الواضح أنهما كانا يشتاقان للحياة
معاً كما كانا فى أثينا منذ نحو خمس سنوات، وأنه لا يزال لهما نفس الهدف فى ترك
العالم. وكثيراً ما عبر القديس باسيليوس عن خيبة أمله فى عدم إمكانهما الحياة معاً.
بل إنه يقول فى خطابه 14 إنه يتخلى بصعوبة عن آماله وأحلامه التى كان قد وضعها
يوماً ما فى صديقه.

هذا
لا يعنى أن علاقة الصديقين استمرت سلسة على الدوام، فقد حدث بعد عام 370م أن توترت
العلاقة بينهما . لكن القديس باسيليوس، يرى أن مشكلة توتر علاقات الصداقة بينهما
ترجع بصفة رئيسية إلى حقيقة عدم رؤيتهما لبعضهما إلا نادراً، ويعتبر أن القديس
غريغوريوس هو المقصر فى هذا الأمر لأنه أقل انشغالاً منه
ويتضح من رسالة القديس باسيليوس 71 أنه لم ينسَ صداقتهما القديمة،
وكل ما يتصل بها من خبرات روحية ومشاعر حميمة. وفى هذه الرسالة يبدو واضحاً أنه
يلتمس مساندة القديس غريغوريوس له فى أسى بالغ، شاعراً بمسئوليته فى المعاناة من
أجل الكنيسة التى لا يمكنه التخلى عنها.

ورغم
افتراض غالبية الدارسين[22]
[22] أن القديسين باسيليوس وغريغوريوس ظلا فى حالة من الخلاف والخصام
نظراً لصفاتهما الشخصية المتعارضة، ولكننا نلاحظ أن رسالة القديس باسيليوس 71
السالفة الذكر كانت زاخرة بالمشاعر الرقيقة. وهى تضارع رسائل القديس غريغوريوس
الثلاث 58-60 فى خلوها من المرارة، بل إن القديس غريغوريوس يعود فى هذه الرسائل
إلى عباراته السابقة المملوءة بكل إعجاب وتقدير لصديقه حتى أنه يقول له:

[
لقد اعتبرتك دائماً مرشدى الخاص فى الحياة ومعلمى فى الإيمان، وفى كل شىء حسن
يمكن للإنسان أن يذكره
، ولا زلت اعتبرك هكذا حتى الآن
ولعل صداقتك لى وعلاقتنا الحميمة هى أكبر كسب حققته فى حياتى …]

        كما
يقدم للقديس باسيليوس كل تشجيع وعون، رغم انشغاله بمرض والدته ومسئولياته فى
“كنيسة نزيانزوس” التى منعته من تحقيق رغبته فى الذهاب إلى القديس
باسيليوس ومساعدته.

وثمة
براهين أخرى تؤيد استمرار صداقتهما بعد المشاكل التى حدثت سنة 372، والتى يذكرها
القديس غريغوريوس فى رسالته 53 إلى ابن عمه الكبير نيكوبولس، فيما بين عامى 384
و390، بعد انتقال القديس باسيليوس؛ وفيها يقول إنه كان يحب القديس باسيليوس
أكثر من نفسه،
حتى عندما كانا مختلفين فى الرأى؛ ولهذا فهو يؤكد على اعتزازه
بخطاباته حتى أنه يضعها أمامه فى مقدمة مجموعة رسائله الخاصة . وفى تأبين القديس
غريغوريوس لصديقه[23]
[23]، يعبر عن خسارته الشخصية الفادحة لفقدانه أحب أصدقائه، الذى
يشعر معه أنه نصف حى، وممزق إلى نصفين،
وتلازمه باستمرار أفكار ومشاعر صديقه،
والتى تُذّكِره بالصدمة التى انتابته عندما تركه القديس باسيليوس فى أثينا، بعد
فترة دراستهما معاً.

 

II الصداقة

نأتى
الآن إلى الجزء الثانى من مبحثنا، والذى يتناول موقف كل من الصديقين من الصداقة،
وكيف أثَّرَّ فكرهما المسيحى فى الأفكار الكلاسيكية السائدة:

أ
الصداقة عند القديس غريغوريوس

كان
القديس غريغوريوس يحترم الصداقة ويقدرها تقديراً عالياً، ليس فقط فى علاقاته مع
القديس باسيليوس أعز أصدقائه، بل وفى العديد من كتاباته ورسائله أيضاً

. ففى الرسالة 94 إلى
أمازونيوس، يكتب قديسنا أن نقطة ضعفه هى الصداقة. كما استهل خطابه 103 إلى
بلاديوس قائلاً: “إن سألنى أحد ما أفضل ما فى الحياة لأجبته: الأصدقاء”.

أما
الرسالة الحادية عشرة الموجهة إلى القديس غريغوريوس النيسى، فإنه يستهلها بما يعتبره
بركة الصداقة
EÙlog…a، والتى نجدها فى عدد من النصوص الكتابية تشمل النص الشائع لمزمور
132(133)، وأيضاً يشوع بن سيراخ (6: 14-15) حيث يقول: ” الصديق الأمين ستر
حصين، ومن وجده قد وجد كنزاً”. ومن ناحية أخرى فإنه يعتبر انفصال الصديق عن
صديقه يُسبب ألماً يحتاج إلى مواساة. [24]
[24]

ومن
الملامح المميزة لمناقشات القديس غريغوريوس حول الصداقة، إشاراته المتكررة للأدب
الكلاسيكى. واستخدامه فيما يتفق ووجهة نظره المسيحية، مع تطوير ذلك الأدب أحياناً
ليناسب العمق المسيحى.ففى رسالته 168 يعبر عن الفكرة الكلاسيكية الخاصة بالأشياء
المشتركة بين الأصدقاء بألفاظ كتابية مقتبساً لو15: 31، حيث يقول الأب لابنه
الأكبر“كل ما هو لى فهو لك”، قائلاً إن الأصدقاء يشتركون فى
كل شىء بسبب شركة الروح القدس والمحبة التى توجد بينهم
. وفى الرسالة 31 يقتبس
من كلام الشاعر ثيوجينيس السطور 643-644، موافقاً على توصية الشاعر بالصداقة
التى تدعمها الأعمال أكثر من مجرد السرور بالكلام المتبادل
. تلك التوصية التى
نجد لها مقابلاً فى رسالة يوحنا الأولى، إذ تؤكد أنه ينبغى أن “لا نحب
بالكلام واللسان، بل بالعمل والحق” (1يو3: 18). وهذه الفكرة الخاصة بالأعمال
نجدها أيضاً فى الرسالة 230 حيث يكتب قديسنا إلى ثيؤدوسيوس أن الصداقة القائمة
بينهما صداقة صافية تخلو من أى خداع أو رياء، لذا فهى صداقة من النوع النادر،

لأنهما متحدان بالاهتمامات والأعمال المشتركة، لا بالدم ولا بالجنسية أو القومية.

وفى
خطابه 195 الذى كتبه فى نهاية حياته يقتبس القديس غريغوريوس من كتاب
Hesiod المعروف باسم Works
and Days
، السطور 25و26، لكنه
يختلف مع ما ورد فيه من أن الرجال ذوى الاهتمامات المشتركة أو الوظيفة الواحدة، لا
يمكن أن يكونوا أصدقاء. وفى الرسالة 11 المرسلة إلى القديس غريغوريوس النيسى يضع
قديسنا أحد ملامح نظريته عن الصداقة المسيحية، حيث يكتب فى الفقرة الافتتاحية أن كل
الذين يحيون حسب الله والذين يتبعون نفس الإنجيل هم أصدقاء وأقرباء. كما يعتقد أن
الله هو الذى يخلق الصداقات.
ونجد هذه الفكرة تتكرر فى عدة رسائل مثل الرسالة
56 إلى تكلا حيث يكتب أنهما مرتبطان بالروح القدس.

 

ب
الصداقة عند القديس باسيليوس

كان
للقديس باسيليوس فكره النامى فى الصداقة، والذى يمكننا أن نكتشفه بسهولة منذ أيام
دراسته الأولى وحتى كتابته، مفهوماً كاملاً ناضجاً ومسيحياً عن الصداقة فى أيامه
الأخيرة. ويبدو أن القديس باسيليوس بدأ بمشاركة صديق عمره القديس غريغوريوس فكرة
“اشتراك الأصدقاء فى كل شىء”. مثلما يفصح عن ذلك فى خطابه 271 الذى كتبه
فى أواخر حياته إلى يوسابيوس الذى كان صديقهما الثالث فى أثينا قائلاً: إنه كان
يود أن يرى هذا الصديق العزيز مرة أخرى، وأن يحيا من جديد الأيام التى كان لهما
فيها نفس البيت ونفس المعلم، وأيضاً الشركة فى الدراسة وأوقات الراحة والفراغ
ويتضح من هذا الخطاب وغيره من الخطابات، أن قديسنا لم يختبر
صداقات حميمة كثيرة فقط، بل كان قادراً على الاحتفاظ بهذه الصداقات لسنين عديدة
أيضاً، مع استمراره فى تقييمها تقييماً سامياً. وقد تأثر مفهوم قديسنا عن الصداقة
بعض الشىء بالأفكار الكلاسيكية فى الفلسفة والأدب، والتى لم تصطدم بالمعتقدات
المسيحية الراسخة.

ويبدو
أنه كان يؤمن
مثل أرسطوطاليس أن الصداقة فضيلة.[25][25] ويعتقد أن الصداقة تدوم إلى الأبد، إن هى قامت على الفضيلة، رغم
أن الفضيلة يحل محلها الإيمان الواحد المشترك الذى يعتنقه كل المسيحيين والذى
يُكِوّن الأساس الراسخ للمحبة المتبادلة بين الصَديقين فى المسيحية
. ومثل
أرسطوطاليس أيضاً، فإن القديس باسيليوس يفرق بين أنواع عديدة من الصداقة، دون أن يستخدم
نفس تقسيماته. لكنه يميز بين صداقة جسدانية أو أرضية، وأخرى روحانية.[26]
[26] وهذه الصداقة الروحانية نادرة وسامية، ومرتبطة أساساً بأعمال
الروح القدس والنعمة الإلهية.
وفى الرسالة 83 يشير قديسنا إلى قول كلاسيكى
مشهور عن أن ” الصديق نفسٌ ثانيةٌ لصديقه”، ويقول إنه قول حكيم، مؤكداً
ذلك فى الرسالة 36 عن بعض أصدقائه الذين كان يطلب مساعدتهم له قائلاً: هؤلاء
الأصدقاء الذين أعتبرهم مثل نفسى تماماً. وثمة فكرة عاطفية مشهورة أخرى فى
الكتابات الكلاسيكية “أن الإطراء يُفسِد الصداقة”. ففى الرسالة 20 يختتم
القديس باسيليوس رسالته إلى صديقه القديس غريغوريوس بقوله “إن الصديق يختلف
تماماً عن الشخص الذى يمدح وينافق”. وفى الرسالة 72 يقول إن المديح يتلف
الصداقة[27]
[27]، مثلما يتلف الندى القمح.

ويلاحظ
أن الميزة الكبيرة فى تعامل رئيس أساقفة قيصرية مع الأقوال الكلاسيكية القديمة،
هى قدرته على تحويل المضمون الكلاسيكى إلى آخر مسيحى،
مع توسيع التطبيق فيما
كان يستخدمه القدماء حول الصداقات الشخصية. ولم يكن اهتمام القديس باسيليوس
مُنحصراً فى الصداقة على مستوى الفرد فقط، بل وعلى مستوى كل الكنيسة، فيما يسمى
الشركة ” الكينونيا ”
Koinwn…a حيث يرى قديسنا أن جسد المسيح هو أساس هذه الشركة (الكينونيا).
وفى الرسالة 156 إلى أوغريس أسقف إنطاكية، يقول القديس باسيليوس؛ إن اتحاد
أعضاء جسد المسيح لهو أعظم صلاح، فكل أعضاء جسد المسيح إنما يوحدهم الحب الروحى
،
الأمر الذى يقيم بينهم وحدة من نوع خاص، رغم انفصالهم الواحد عن الآخر وانتشارهم
فى أنحاء المسكونة.[28]
[28]

ويرى
قديسنا مَلمحاً آخر من ملامح الكنيسة كجسد المسيح، يظهر فى اعتماد أعضاء الكنيسة
على بعضهم البعض، وحاجة كل عضو فيها إلى الآخر، وإنهم هكذا يهتمون ببعضهم، الأمر
الذى يتيح لهم ممارسة واختبار عاطفة الود الحميمة بينهم فى أفراحهم وأحزانهم.
ويبدو أن الأفكار الكلاسيكية حول مشاركة المشاعر فى الحب والصداقة
Fil…a كانت أقل تأثيراً عليه من تعاليم الرسول بولس حيث يكتب فى 1كو12: 26:
“فإن كان عضو واحد يتألم فجميع الأعضاء تتألم معه، وإن كان عضو واحد يُكْرّم
فجميع الأعضاء تفرح معه”[29]
[29].

ويستهوى
قديسنا مفهوم “
وحدانية الفكر
homodoxia أو الاتفاق فى الرأى homopsychos.
وهكذا يطلق قديسنا هذا الوصف على علاقاته ببعض أصدقائه فى رسائله، خاصة الرسالة
191 إلى أمفيلوخيوس أسقف إيكونيوم، حيث يشير القديس باسيليوس إلى)مت12: 24؛ يو13: 35)،
بأن نحب بعضنا بعضاً كأصدقاء؛ فَنظهر للناس لا كأتباع أمناء للمسيح فقط، بل
محافظين على وحدة جسد المسيح أيضاً.
وفى محيط الصداقة والود والحب بين
الأصدقاء يشدد قديسنا على أهمية الرسائل المتبادلة بينهم، ويعتبرها تمثل حضوراً
شخصياً للصديق، أو بديلاً عنه[30]
[30]. بل ويحسبها ضرورية للصداقة. فالرسائل يمكنها أن تنقل أكثر مشاعر
الأصدقاء عمقًا، مثلما تفعل المحادثة الشخصية تماماً، وهى تقدر أن تكشف عن السمات
الشخصية الحقيقية للإنسان، بل وتقدم برهاناً على حب الأصدقاء لبعضهم البعض، وهو
الحب الذى يحتاجون إليه، خاصة إذا بعدت المسافات وطالت أوقات الفراق. فيقول قديسنا:

 [
إن الرسائل تضمن التعزية للبعيدين، وتغذى أولئك العاجزين عن الانتفاع بمواهب
الشخص الآخر الروحية، وهى فرصة يرتبها الله، إذ تعتبر المراسلة بين الأصدقاء هبة
من الله كالصداقة تماماً ]
.

مثلما
يكتب قديسنا فى الرسالة 197 إلى إمبروسيوس أسقف ميلان. وتكشف رسائل القديس
باسيليوس بوضوح عن فكرته الأساسية عن الصداقة، كعلاقة روحية حميمة بين مجموعة
صغيرة من الناس
كرسوا أنفسهم للتأمل وخدمة الله، وهو الأمر الذى اختبره
فى صدر شبابه، ونما مع تدبيره للكنيسة التى كان يراها، وقد اتحد أعضاؤها بالمحبة
القائمة على الإيمان المشترك، فى علاقة تشبه نوعاً من الصداقة الدائمة الممنوحة من
الله، والتى تهب سلاماً يضمن قيام حياة مسيحية حقة.



[1][1] المرجع الرئيسى فى هذا الموضوع :

Caroline White, Christian
Friendship in the
Forth Century, <<Cambridge>>,1995.

[3][3] اكليمدس الأسكندرى :  Stromata 2:19.

[4][4] القديس باسيليوس فى رسالته 91 يكتب إلى أسقف صديقه عن الصداقة
والمحبة الروحية، الناتجة عن المراسلات المتبادلة بين المسيحيين.

[7][7] رسالة القديس إمبروسيوس إلى صديقه بانينوس 26:49 .

[9][9] فكرة الصداقة بين الإنسان والله موجودة أيضًا عند فيلو الفيلسوف
اليهودىوالكتاب المسيحيين فى العصور الأولى أيضا.

E. Peterson, `Der Gottes freund` ZKG 42 (1923), 161 –
202

[10][10] قابل أم 18: 24 “يوجد محب (صديق) ألزق من الأخ”.

[11][11] من أكثر الآباء الذين استخدموا مز 7:55س فى رسائلهم: القديس
باسيليوس فى رسالتيه 47و140، والقديس غريغوريوس النيزينزى فى رسالته 42، وباولينوس
أسقف نولا فى رسالتيه 18: 8 و 38 : 9 .

[12][12] أوغسطينوس أسقف هيبو فى تعليقه على مز103: 13.

[15][15]  القديس يوحنا
ذهبى الفم، فى عظته الأولى على رسالة كولوسى
 Field, ed., vol.5,
pp.176-8
.

[20][20]  Or.
43. PG 36.521
يشبه
القديس ذهبى الفم الصداقة بالزهور النادرة قائلاً: تشبه الصداقة الحقيقية نباتاً
هندياً نادراً، مهما حاولت جاهداً أن أصفها لكم أصير عاجزاً عن شرحها بشكل مناسب،
خاصة لمن لم يختبرها بعد.

Field, ed., vol. 5, p. 335.

[24][24] قابل الرسائل 131: 3 و 133: 2.

[25][25] القديس باسيليوس : الرسالة 83                                                                                                                                  Aristotle, Nic.
Eth. 11.55a. 9.
.

[26][26] القديس باسيليوس الرسالة 133 والرسالة 154.

[28][28] قابل الرسالة 70، 243 .

[29][29] القديس باسيليوس الرسالة 5 .

[30][30] القديس باسيليوس الرسالة 20 .

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى